الترجمة : عبد الله زارو
يعتبر هذا الكتاب بقلم أرثر شوبنهاور من أهم الكتاب التي تناولت الفلسفة العملية أو الحكمة العملية إذ يسعى فيلسوفنا إلى تقديم الفلسفة كمرشد أخلاقي و عملي إلى فن العيش الحكيم.
يستفتح شوبنهاور كتابه بتقسيم الأساسي الذي يشكل و يؤطر رؤيته الفلسفية في الكتاب و يشمل هذا التقسيم 1- الكينونة أو ما نحن ياه و المتعلقة بشخصية الإنسان و طبعه 2- الحيازة أو ما نملكه من الاشياء 3- التمثلات أي ما نمثله في أعين الأخرين و موازينهم. و في سياق نفسه يستمد شوبنهاور من كانط فكرة أن الأشياء و الأحداث في الواقع تنقسم إلى شق ذاتي و موضوعي و يحاول أن ينتصر لرأي إيبقور أن الاسباب السعادة منبعها الشق الذاتي أي ما نحن إياه أو الكينونة فيقول “من الأمور المؤكدة إذن أن الذاتي أهم بكثير من الموضوعي في الإنسان وعليه المعوّل في توفير سعادته وخلق متعه في كل مناحي الحياة. هذا أمر لا جدال فيه، بدءا بالجوع الذي هو أمهر الطباخين، كما نقول وانتهاءً بذلك الشيخ العجوز الذي ينظر نظرة غير مبالية إلى تلك المعشوقة التي يهيم بها الشاب العاشق، كما أن هذا أمر مؤكد أكثر فأكثر، كلما صعدنا نحو القمة حيث يعيش النوابغ والقديسون حياتهم الهنية.”
لذا يبين شوبنهاور أن الخيرات الخارجية و الظروف الخارجية في حقيقتها لها تأثير نسبي :
“لذلك، فالشرط الأول والجوهري لسعادتنا هو ما نحن إياه، هــو طبعنا أولا وأخيرا. فهو الذي يُؤثر فينا على نحو مباشر وفي كل الظروف والحال أن هذا الطبع المتأصل بمنأى عن تقلبــــات الحــــظ والصدف، عكس الخيرات التي نحوزها وآراء الآخرين فينا، هذا فضلا أن هذا الطبع لن يسلبنا أبدا لبنا. لذلك، فلهذا الشرط قيمة مطلقــــة بينما قيمة الخيرات الأخرى التي تأتينا من الخارج نسبية، وبالتالي فالشخص الذي يُوجهه هذا الشرط الداخلي لا تغيره أشياء العالم الخارجي كما تغير غيره وحده الزمن بقوانينه الطبيعية الحتمية، يمارس عليه تأثيره النافذ بسبب التراجع التدريجي لقدراته العقلية والبدنية، تراجع لا يطال قطعا طبعه الأخلاقي وجوهر شخصيته.”
لذا لا يتردد في تشديد على صون النعم الذاتية كالمزايا العقلية و البدنية:
“إن النعم الذاتية التي تدلُّ بحضورها على توافر أسباب وموجبات السعادة، وتشمل الطبع النبيل والعقل الراجح والمزاج الرائق والنفس المرحة والجسم السليم. ومن أوجب الواجبات علينا أن نصون هذه النعم وننميها بدل اللهاث وراء النعم الخارجية ومظاهر الشرف والأبهة.”
” فلو تفوقت صفات الكينونة فينا، فإن الحكمة تقضي بالحفاظ على صحتنا وإنماء ملكاتنا، لا أن تراكم الثروات والخيرات المادية إذ لا فائدة منها إلا في حدودها الدنيا الضرورية لاستمرارنا في العيش وعلى قيد الحياة. إن اللهاث وراء الثراء الفاحش لن يساهم أبدا إلا بالنزر اليسير في تحقيق سعادتنا، ودليلنا على ذلك أن أغنياء كُثر لم ينجح غناهم في انتشالهم من وهدة الشقاء لأنهم لا يمتلكون شيئا من المعارف والثقافة العقلية، وبالتالي متحفزين موضوعيا للتفرغ لانشغالات فكرية”.
في سياق البحث عن السعادة في الفلسفة يضع شوبنهاور يده على أهم ما يقف في السعادة الناس و هما الألم و الملل ، الأول مصدره الحاجة إلى الإشباع و الثاني مصدره الفراغ الداخلي الذي تولده حالة من الامان و العيش الرغد :
“ونظرة إجمالية في أحوال الناس وأوضاعهم كافية بأن تجعلنــا نضع اليد على العدوّين اللدودين لسعادتهم وهما: الألم والملل، وبقدرما يبتعد الإنسان عن الأول يقترب من الثاني والعكس صحيح؛ بل إن الحياة البشرية برمتها لا تعدو أن تكون تأرجحا متواصلا بين الحدين بدرجات متفاوتة في الحدة والشدة[…] ولا أدل على قوة هذه الظاهرة من أفواج المتسكعين والمتبطلين الذين يجوبون العالم طولا وعرضا، فهذا الخواء الداخلي هو الذي يدفعهم دفعا نحو البحث عن كل أنواع التجمعات البشرية والتسليات لأجل تمضية الوقت والركض وراء المتع ومظاهر البذخ، ما يقودهم في النهاية إلى تبذير ممتلكاتهم والسقوط في هاوية البؤس والإفلاس.”
و لا علاج لهذا البؤس و الإفلاس إلا الثراء الداخلي الذي يحضى به صفوة من الناس و الألمعي منهم :
“ولا علاج لهذا البؤس إلا الثراء الداخلي، ثراء العقل والروح
الذي بقدر ما يرفع قدر صاحبه ويسمو به بقدر ما يُبعده عن الملـــل ومُسباته. إن النشاط الذهني المتواصل والمتجدد من خلال تمظهراتــــه الخارجية والداخلية والقدرة كما الحاجة إلى التوليف بينها، يضعان صاحب العقل الراجح بمنأى عن الملل وخارج قبضته إلا في حالات التعب العابرة […] فالألمعي اللبيب لابد أن يسعى أول ما يسعى إلى تجنب كل مصادر الألم ومسببات الإزعاج مقابل تلمُّسه لسبل الراحة وتنكبه لأوقات الفراغ والتفرغ. لذلك لا نستغرب إن كان يبحث بلا كلل ولا ملل عن حياة هادئة وبسيطة وبعيدة أشد البعد عن كل مصادر الإزعاج وعلى طريقه، لا بد أن يجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. فبقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة ،بدواخله بقــدر مــا يشـتد استغناؤه عن الناس وعن العالم الخارجي.
على هذا النحو، يكون المتفوق فكريا، حتما، إنسانا لا اجتماعيا. فلو كان الكم مساويا للكيف في القيمة، لجاز تح
جشم عناء العيش مع الناس ومخالطتهم، لكن هيهات فمئة مخبول لا تعادل ولن تعادل أبدا صاحب عقل راجح واحد.”
بقلم نبيل سحنون
اقتراح نبيل الجزائري