الفلسفة المعاصرة

الواقع تحت مجهر القراءة الماركسية الحلقة الثانية/

عبد المجيد طعام / مسارات فكرية

انتهينا في الحلقة الأولى من قراءة الواقع على ضوء الماركسية من أجل فهم الصراع الطبقي إلى القول بأن المفارقة الصارخة في المجتمعات الراسمالية  تكمن في غياب الوعي بالانتماء الطبقي لدى الطبقة الكادحة ،في حين  تتمكن البرجوازية من وعيها الطبقي  ِوكنا قد تساءلنا عن السبب لمَاذَا تملك البرجوازية وعيها الطبقي ؟ الجواب عن هذا السؤال بسيط ، نقول إن البرجوازية  لها  مصالح كثيرة  لا تتوفر لدى الكادحين أوالطبقة العاملة.واستمرار تواجد البرجوازية رهين باستمرار تلك المصالح ،  لهذا تشتغل البرجوازية  بكل حرص على تعديل الوعي حفاظا على مصالحها ، وهذا ما يعرف بالوعي الطبقي لدى البورجوازية. بالنسبة لماركس، للبورجوازية وعي  طبقي متطور بالمقارنة مع وعي الطبقة العاملة، لأنها تملك وسائل الإنتاج لأنها تستحوذ على شيء يجب مراقبته، وهذا ما يجعلها واعية بواقعها ومصيرها تعي الحاضر وتتطلع إلى المستقبل  ، وعندما  تتعرض مصالحها للتهديد، تقوم بالتحرك، لكنها لا تفعل ذلك بشكل مرئي بالنزول إلى الشوارع، الخروج إلى الشارع هو من مهام الفقراء الفقراء الذين ليس لديهم وسائل أخرى للدفاع عن مصالحهم ، عليهم أن يتظاهروا وأن يضربوا  أما البرجوازية فإنها تستخدم مقومات العمل الهيكلية مثل فصل الموظفين والعمال، وتحويل الشركات إلى خارج البلاد، وإعادة هيكلة الشركات والقوانين ، حاليا  تتحكم البرجوازية في كل المؤسسات التي تعمق تواجدها و تضمن لها السيطرة وحماية مصالحها ،يمكن أن نعتبر البرلمانات في كل الأنظمة الرأسمالية والشبه رأسمالية  مؤسسات تخدم مصالح البرجوازية ، كل القوانين التي تحتاجها  الأنظمة يؤشر عليها البرلمان ، أصبحت البرجوازية تحاول أن تستغل الطبقات الكادحة بواجهة قانونية وبالشرعية الدستورية ، وتسعى الأنظمة البرجوازية وذات الأصول الإقطاعية إلى تقديم القوانين وبنود الدساتير على أنها قائمة على إجماع وطني ، إنه مجرد وهم لأن البرجوازية لن تسمح بقوانين تقلص هيمنتها أو تضعها أمام المساءلة ، للتمويه تسمح البرجوازية للمعارضة بتمثيلية صورية ضعيفة في البرلمان ، لا تتوفر على أية سلطة ولا تؤثر في القوانين التي يراد لها أن تخرج إلى حيز  والتي تخدم البرجوازية ولا تخدم نهائيا انتظارات الشعب أو الطبقات المحرومة والكادحة ولنا في تجربة المعارضة في البرلمان المغربي خير مثال ، حيث أن اللعبة السياسية جعلت الأحزاب تلعب دور الأغلبية مرة ودور المعرضة مرة أخرى ويمكن أن نعتبر هذا كنوع من التهريج السياسي الذي يسعى إلى تغييب الوعي بالانتماء الطبقي وأحيانا تسمح البرجوازية لبعض الأصوات المعارضة لتدخل البرلمان من أجل الإغراق في تغييب الوعي الطبقي ويمكن أن نمثل لهذا النموذج بما حدث مع فيديرالية اليسار الموحد في التجربة البرلمانية السابقة وما يحدث اليوم مع الاشتراكي الموحد بزعيمته نبيلة منيب التي اختارت أسهل الطرق لتخفي عجزها في تمكين الطبقات الكادحة من وعيهم الطبقي .

إن البرجوازية تخلق المؤسسات والقوانين التي تخدم مصالحها ، ولا يمكن أن يحصل التغيير من داخل المؤسسات التي أصبحت ضمن وسائل الإنتاج التي تستحوذ عليها البرجوازية , التغيير من داخل مؤسسات النظام هو وهم من الأوهام التي تمرره نبيلة منيب ويعمق تغييب الوعي بالانتماء الطبقي ، لنقترب أكثر من هذا الوهم أي وهم التغيير من داخل المؤسسات ، ننظر إلى ما يحدث حاليا بفرنسا  ـعيش فرنسا  اضطرابات ومظاهرات عارمة نتيجة قانون إصلاح التقاعد ، فشلت حكومة ماكرون في تمرير القانون عبر مؤسستها البرلمانية فلجأت إلى تمرير القانون عبر  البند  43.9 ضدا على الإرادة الشعبية التي ترفض إصلاح التقاعد ما رفع من حدة الاحتجاجات ، ماذا نلاحظ ؟ نلاحظ أن البرجوازية تملك كل الوسائل لفرض سلطتها والمحافظة على مصالحها ،ولا زلنا نتذكر كيف ان حكومة بنكيران أخرجت من البرلمان قرارات أصابت مكتسبات الشعب في مقتل وكل تلك القوانين التي صادق عليها البرلمان خدمت البرجوازية والإقطاعية ولم تكن في صالح الشعب مثل قانون إصلاح التقاعد وإصلاح صندوق المقاصة وتحرير المحروقات وقانون التعاقد في الوظيفة العمومية وقد وجدت الحكومة الحالية الطريق معبدة ، وجدت حكومة سابقة جيئ بها لتمرير كل القوانين المجحفة بطريقة ديمقراطية وأصبحت مهمة الحكومة الحالية على أتم الاستعداد  لتستصدر قوانين جديدة لصالح البرجوازية وما استيراد البقر البرازيلي إلا صفقة من الصفقات التي تستفيد منها اللوبيات التي تهيمن على الاقتصاد الوطني وهذا ما يجعلنا نستحضر موقف ماركس حيف يرى أن، السياسة هي الذراع المسلّح للإقتصاد، وأن الشرطة هي الذراع المسلّح للسياسة. وهذا يعني أنّ قوات الأمن في المجتمعات الرأسمالية  هي أداة من أدوات الإنتاج الرأسمالي إنها تنتج قيم الرضوخ والاستسلام.عندما قلنا أنّ وعي الطبقة البورجوازية مرتبط بوجود مصالح لها تقوم بحمايتها بكل الوسائل الممكنة والممنوعة كممارسة العنف  ، فهذا لا يعني أنّ الطبقة العاملة ليس لها  مصالح ، حقيقة أن هناك تعارضا في المصالح بين الطبقتين .. الحكام لديهم مصالح مختلفة عن تلك التي للمستضعفين، مما يجعل الطبقة العاملة تواجه إكراهات كثيرة وهي تدافع عن مصالحها ،عليها أن تعرف ما هي مصالحها ، عليها أن تعرف أن مصالحها هي العدالة الاجتماعية والتحرر والمساواة ، وهذه المصالح / المطالب ترفضها البرجوازية ، لأن تحرير الطبقة العاملة يعني نهاية الاستغلال والمساواة الاجتماعية تعني نهاية الامتيازات.. إن إصرار البرجوازية على عدم التفريط في امتيازاتها هو ما يدفع المستضعفين إلى اللجوء إلى العنف ، سجل التاريخ الكثير من ثورات المستضعفين بمطالب اجتماعية ، أكبرها وأقدمها ما حدث أواخر القرن الثامن عشر والمعروف تاريخيا باسم الثورة الفرنسية .

وقعت  الثورة الفرنسية عام  1789  ، في الحقيقة لم تكن ثورة عامة للطبقة العاملة، لأنها أدت إلى إنشاءً الرأسمالية. حقوق الإنسان التي نتجت عنها  هي حقوق البورجوازية، وليست حقوق الطبقة العاملة. ولكن رغم ذلك يرى ماركس أن هذه الثورة كانت جد مهمة، لأنها شكلت مرحلة تاريخية مهمة في تطور الصراع بين البرجوازية والبروليناريا ، منحت للصراع بين الطبقات بعده الحتمي. كيف ؟ للإجابة عن هذا السؤال وجب أن نشير إلى أن ماركس يتبنى رؤية جدلية للتاريخ،  الأحداث وإن تعارضت مع الرؤية الفلسفية لماركس إلا أنها تساهم بشكل من ألأشكال في ما يسميه ماركس الحتمية التاريخية ،وهكذاوإن أدت الثورة الفرنسية إلى ظهور الرأسمالية، إلا أنّها في نفس الوقت أدت  إلى  تنظيم القوى المناهضة للرأسمالية وساهمت في تسريع عملية الوعي بالانتماء الطبقي.إن الصراع بين الرأسمالية والطبقة العاملة ليس صراعًا أخلاقيًا، إنه صراع تاريخي، وهذا هو بالفعل مصدر عبارة “الاشتراكية العلمية”، التي تشير إلى منهج فني نقدي يدرس العلاقات الاقتصادية بشكل خالص. وهكذا لم تعد قراءة استغلال البرجوازية للبروليتاريا  من الزاوية الأخلاقية وانما من زاوية فهم كيف يحدث هذا الاستغلال ، كيف تتحقق الهيمنة، وإلى أين يؤدي ذلك، إلخ. الاشتراكية العلمية هي  قراءة  آليات الهيمنة الرأسمالية وفهم ما يحدث من تطور في الرأسمالية ورصد مؤشرات اقترابها من نهايتها  بفضل نضالات الطبقة الكادحة والعاملة التي تبدو من الظاهر وكان أمرها قد  حسم بعد الانتصارات التي حققتها البرجوازية  ، لكن ما دام أن الطبقة الكادحة متشبثة بالنضال فلا بد أن تنتصر لكن ماذا يمثل النضال ؟ كيف يكون ؟ وللماذا سيتحقق الانتصار بواسطته ؟    في تاريخ صراع الطبقات، السؤال المحوري ما هو النضال ؟

بالنسبة لماركس، النضال ليس مجرد صراع بين قوتين، بل هو مواجهة يبحث فيها العمال عن فهم وضعهم وتطوير وعيهم الطبقي الخاص. النضال هو عملية إنضاج الوعي يقود العمال إلى التحرر من الأيديولوجيا السائدة وفهم آليات قمعهم الخاصة. في الأخير نقول ، إن  النضال ليس حدثًا عابرا، بل هو عملية دائمة تستمر حتى الظهور الفعلي للمجتمع الخالي من الطبقات.

. في النضال، نواجه خصماً، قويا وعنيدا وشرسا هو من يحدد موقفنا ويحدد هويتنا ويستعمل كل الحيل والاستراتيجيات ليقنعنا بالهوية التي يريدها هو لنا وإن استدعى الأمر خلق طبقة جديدة تطمس الصراع الطبقي الحقيقي ، وهذا ما يمكن أن نلمسه  حينما خلقت البرجوازية  طبقة جديدة  بين الطبقتين المتصارعتين تاريخيا ،سمتها الطبقة الوسطى وهي  طبقة انتهازية لا هوية لها ولا قيم ولا مبادئ نضالية  لكن لماذا خلقت البرجوازية الطبقة الوسطى ؟ ولماذا ترتفع الأصوات حاليا متباكية عن قرب نهاية هذه الطبقة ؟  ظهرت الطبقة الوسطى في المجتمع الرأسمالي الغربي في القطاع الخاص بشكل ملحوظ  بعد أن حققت النضالات العمالية مكاسب مالية وحقوقية مهمة  غير أن الرأسمالية الغربية وجهت الانتصارات العمالية لصالحها وعرفت كيف تستفيد من الوضع الجديد لتقوية الرأسمال بالاعتماد  على وفرة الإنتاج والاستهلاك وهكذا ستستعيد  الرأسمالية فائض الأموال من جيوب الطبقة المتوسطة  وهكذا ستصبح هذه الطبقة مجرد حلقة في دورة الإنتاج الرأسمالي ، لم تستطع الطبقة المتوسطة  أن تكسب هوية أو وعيا بالانتماء ، ظلت مجرد امتداد للآلة ، الآلة تنتج والطبقة المتوسطة تستهلك ، في السنوات الأخيرة تقلص حجم الطبقة المتوسطة في الغرب بسبب الأزمات الاقتصادية الكثيرة وارتفاع نسب التضخم وتهريب الشركات والاستقرار بها في  دول الهامش المتوفرة على فائض من اليد العاملة التي تقبل العمل في ظروف غير إنسانية .

لم تنشأ الطبقة المتوسطة في الوطن العربي في المعامل ، لازالت الشركات في بلادنا  لا تحترم القانون وهكذا ستنشأ الطبقة المتوسطة  في الوظيفة العمومية ، الطبقة المتوسطة العربية تتكون في غالبيتها من الموظفين لا هوية لها ولا وعي بانتمائها الطبقي ، باستثناء الرعيل الأول من المثقفين الذين كانوا يشتغلون في مجال التعليم ،حملوا مشعل النضال وطالبوا بمطالب كالحق في التعليم والحرية والعدالة الاجتماعية ولا أحد ينكر أن الكثير من المكتسبات التي تحققت للشعب كانت نتيجة نضال هذه الفئة ، للأسف  لم يعد للطبقة الوسطى اليوم أي وجود بل نلاحظ أن الدولة تسعى إلى التخلص من هذه الطبفة ، لم يعد لاستمرارها أي جدوى     . فماذا يفعل العمال عندما يضربون؟ يتحدون في التضامن ، ويصبحون كيانًا جماعيًا. فالنضال هو وسيلة للوصول إلى الوعي الذاتي، النضال  يسمح للعمال بتحرير أنفسهم من الأيديولوجية السائدة، وفهم آليات قمعهم..

عندما يضرب العمال، يدركون أنهم يملكون وسيلة ضغط قوية ، يملكون عملهم وقوتهم العاملة.. ما تقوم به الطبقة العاملة، لا تستطيع البرجوازية  القيام به. يحتاج البرجوازيون العمال. بدونهم ، لا يمكن أن يحققوا الربح ، بدون العمال، لا يوجد رأسماليون. ما سيفعله صاحب المعمل في مصنع مضرب؟  لا شيء لأنه لا يستطيع أن يحل محل العمال بدونهم .

إن علاقة  التبعية بين العامل والمالك هي علاقة تم وصفها فلسفياً بالديالكتيكية يطلق عليها علاقة السيد والعبد، أو السيد والخادم. النص الذي يصف هذه العلاقة موجود في كتاب “ظهور الروح” الذي نشر عام 1807 من قبل هيجل، ويمكن اختزال محتواه على النحو التالي: يأمر السيد العبد بالعمل،وهكذا يتختص العبد بالإنتاج  ،بينما يصطف السيد في خانة المستهلك. إذن العبد هوا لعنصر النشط في دورة الإنتاج، بينما السيد  سيمثل العنصر المستهلك. بعد مدة من الزمن ، يدرك العبد أن هناك خطأ ما يدرك أن يطيع شخصًا يحتاج إليه. بالنسبة لماركس، توضح هذه الصورة تمامًا التي وصفها هيجل ما يحدث في ضمير العامل عندما يكون في حالة صراع:هو أيضا سيدرك أن  لديه السلطة، سيدرك أنه هو العنصر الأساسي، فيصبح المالك مقيدًا، وتتلاشى سلطته لأن العامل نضج وعيه بانتمائه الطبقي ، لهذا ستحرص البرجوازية أن تبقى البروليتاريا بدون هوية طبقية.

عن طريق التوقف عن العمل، والإضراب، ورفض الطاعة ، يظهر العامل البائس قدرته على الإنتاج ، ما يبعث في نفسه الثقة بذاته وإمكانياته ويقوي فيه الإحساس بقدرته على الاستقلال عن مشغله ويمنحه قوة التفاوض. وبالتالي، لا تعدّ معركة الطبقات الاجتماعية مجرد صراع بدني بين قوتين، بل هي معركة عقائدية للسيطرة على السلطة الاقتصادية ، وبالتالي، فإن الوعي الطبقي هو ما ينشأ من صراعات الطبقات، أي عندما يدرك العمال أن البرجوازيين  ليسوا شيئًا بدونهم، وعندما يدركون أن القوة هي في يد الطبقة العاملة ، والقوة هنا لا تعني القوة القانونية، ولا القوة المؤسسية، بل القوة الحقيقية، لأن القوة المؤسسية تنهار تحت ضغط القوة الحقيقية، عندما تدرك الطبقة العاملة هذا، فإنها ستحدث ثورة. سيتم إنهاء استغلال رأس المال ويتم الإعلان عن ميلاد  مجتمع بدون طبقات .

أود التوقف لحظة عند المشروع الذي كان عند ماركس لمجتمع بلا طبقات، لأظهر أن هذا جاء به ماركس تعدى أن يكون مشروعا فقط وإنما طرحه كضرورة لأن ثورة البروليتاريا عند ماركس حتمية بحكم أن تطور الرأسمالية سيؤدي بها إلى الانهيار لأنها تحمل تناقضاتها في داخلها ،تناقضات حتما ستعجل بانفجارها . لكن التساؤلات التي تبقى معلقة هي متى تنفجر الرأسمالية ؟ وما هي العوامل التي لازالت تطيل عمر الرأسمالية ؟ ولماذا لم تؤد الثورات العربية الأخيرة إلى انفجارها ؟ أسئلة كثيرة تنتظر منا أن نصيغ لها إجابات دقيقة نرجئها إلى الحلقة القادمة من سلسلة من أجل فهم الصراع الطبقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى