الفلسفة اليونانية

الموت من أجل الحقيقة  -الحلقة الثانية

سقراط وتهمة إفساد الشباب

عبد المجيد طعام

في الحلقة السابقة عرفنا سقراط المحاور صاحب المنهج التوليدي الباحث عن الحقيقة الكامنة في كل فرد من أفراد المجتمع ، عرفنا فيلسوفا لم يخلف أي نص مكتوب وصلتنا فلسفته وتاريخ حياته بفضل أتباعه الذين سجلوا كل ما سمعوه منه ،فيلسوف يذكرنا بشخص المسيح الذي لم يكتب كتابا وإنما تكفل حواريه بكتابة ما نزل على كلمة الله .

الآن دعونا نضع الحدث في سياقه ، إن حدث محاكمة سقراط  يعود بنا إلى أواخر القرن الرابع و بداية الخامس قبل الميلاد ، كان سقراط يعيش حياته البسيطة المعتادة ، ,تنساب مع انسياب رؤاه وأفكاره وأسئلته التي تسقط على محاوريه  من عقله شلالا  تحفز فيهم البحث عن الحقيقة التي هي حقيقة ذواتهم “اعرف نفسك بنفسك”

ذات يوم جميل لم يكن كسائر أيام سقراط وبينما هو يسير في شوارع أثينا وكما جرت العادة كان  يحاول أن يقترب من مواطنيه ليبدأ محاوراته الفريدة علم أن شاعرا يدعى ميليثو أوميليتوس قدم ضده شكاية أودعها محكمة أثينا  |. كان ميليتوس شاعرًا يونانيًا من شعراء التراجيديا ينتمي إلى القرن الخامس قبل الميلاد وهو أحد المتهمين الرئيسيين والواضع الرسمي للشكاية لدى المحكمة  وقد شاركه الشكاية صديقاه وهما الخطيب  ليكون Lycon و الدباغ أنيطوس Anytos  الذي أصبح فيما بعد رجل سياسة  ,

اتفق الأصدقاء الثلاثة على اتهام  سقراط بجرمين خطيرين الأول ارتكاب المعصية ضد آلهة أثينا والثاني إفساد شباب المدينة . صاغ المتهمون صك الاتهام بتسجيل ثلاثة أعمال شريرة هي على التوالي  : “عدم الاعتراف بآلهة أثينا” و “إدخال آلهة جديدة إلى أثينا “. وإفساد الشباب . هي تهم ثقيلة أججت غضب كل سكان أثينا سنحاول أن ننظر في كل تهمة على حدة  لنعرف حقيقة هذه المحاكمة و طبيعتها وأسبابها وخلفياتها وسنستهل حديثنا عن هذه التهم بالنظر في تهمة إفساد الشباب لأنها تهمة ذات طابع مغرض وموجه ، فماذا يقصدون بهذه التهمة ؟ ما هي دوافعها وخلفياتها ؟

صيغت التهمة الأولى بشكل مثير ، جاء في صك الاتهام :”سقراط أفسد الشباب ” إن اختيار هذا التعبير بهذا الشكل يحمل نية مبيتة هو تعبير مغرض وقد نخاطر في تفسيره بشكل سيء. لماذا ؟

نحن نعرف أن سقراط كان يخرج إلى شوارع أثينا ليحاور المواطنين وكان يقصد شباب المدينة يتعمد لقاءهم قد محاورتهم اعتمادا على نزعته العقلانية ومنهجه التوليدي ، لكنه  لم يكن يحاورهم في أمور تفسد الأخلاق لم يحدثهم مثلا عن الجنس وأنما كانت كل محاوراته ذات طابع فكري راق. لكن الأطراف المتهمة  ذكرت في صك الاتهام أن الشباب  لم يعودوا يؤمنون بالآلهة الرسمية لأثينا كما ذكروا أن سقراط دكان يحفزهم قطع علاقتهم  بالآلهة الرسمية والتعلق بالآلهة الزائفة .

لنفرض جدلا أن سقراط أفسد الشباب ألم يكن من الواجب التعامل مع التهمة في سياقها الديني الفلسفي ؟ التهمة محددة وبكل دقة وتلخص في صرف الشباب عن آلهة أثينا ، كما وجب عدم تغييب الشروط التاريخية التي أحاطت بالتهمة  ، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن محاكمة سقراط جرت في فترة جد حرجة من تاريخ أثينا هي الفترة التي خاضت فيها معارك كثيرة في حرب طويلة عرفت باسم  الحرب البيلوبونيسية وهي حرب يونانية قديمة نشبت بين الحلف الديلي بقيادة أثينا ضد الاتحاد البيلوبونيزي بقيادة أسبرطة. تكبدت أثينا خسائر فادحة في هذه الحرب انتهت بإهانتها وكاد شعبها أن يتحول إلى عبيد لدى اسبرطة كما يسجل التاريخ كيف تم الإنقلاب على الديمقراطية في نفس الفترة واستبدالها بحكم استبدادي

ومع توالي الهزائم والانقلاب على الديمقراطية لم يعد سقراط مرغوبا فيه بأثينا ، أصبح العدو الأول للآثنيين  حملوه مسسؤولية هده الهزائم وهذا الانقلاب على الديمقراطية لكن لماذا حملوا سقراط هذه المسؤولية  ؟ هل كان فيسوفا خائنا للوطن ؟

كان سكان أثينا الذين ذاقوا طعم الإهانة من طرف أسبرطة أو سبارتا هي مدينة يونانية كانت منافسة لأثينا اشتهرت بمجتمعها العسكري الذي ينشئ أبناءه بصفة أساسية على القتال.خاضت حروبا كثيرة ضد أثينا عاد النصر فيها لأسبرطة

 

كان سكان أثينا ينظرون إلى دعوة سقراط بنظرة فيها الكثير من الريبة والنقد والكراهية  لأنه كان يدعو الشباب  إلى ضرورة الاهتمام بالروح على حساب الوطن كان يدعوهم إلى وتهذيب الروح وصقلها ونتيجة تأثر الشباب بسقراط أهملوا مسؤولية الدفاع عن الوطن ولهذا السبب كان أهل أثينا يرون أن سقراط كان له تأثير سلأثر سلبا على الشباب وما زاد من تعقيد أمره أن بعض تلامذته كانوا ضمن الحكومة التي انقلبت على الديمقراطية وسقراط نفسه  لم يكن مناصرا للنظام الديمقراطي كما تأسس في أثينا  كان يرى  أن الحكومة الأفضل هي  التي يسهر على تسيرها الحكماء  هي حكومة الفلاسفة.

لهذا كان ينظر إليه بعض مواطنيه على أنه خائن للديمقراطية ومحرض  لتمرد العقل  لآنه كان يقحم في وعي المواطنين أفكارا خطيرة تهدد النظام العام والسير العادي للمدينة أي أثينا.

إذن يوجد سقراط في وضع لا يحسد عليه وجد نفسه يواجه اتهاما خطيرا  يتلخص في غواية الشباب و صرفهم عن الدين الرسمي لأثينا  وثنيهم عن أداء واجبهم العسكري للدفاع عن أثينا وحمايتها من اسبرطة العدو التاريخي ، يمكن أن نوجز كل هذا في التعبير التالي   صرف الشباب عن الطاعة والامتثال

l’obéissance et le conformisme

تبدو هذه التهمة جد خطيرة لأنها حملت سقراط مسؤولية الانهزام في الحرب وصرف الشباب عن الطاعة والامتثال لما يجمع عليه المجتمع  والقيم التي شيدت عليها أثينا حضارتها إنها تهمة تقود مباشرة إلى المقصلة تصنف ضمن الخيانة العظمى ، لأن  سقراط متهم  بتحريض الشباب على الخروج عن الإجماع. أما التهمة الثانية التي تواجه سقراط فقد مست عقيدته  الدينية لقد أتهم بالكفر بآلهة أثينا وإدخال معتقدات جديدة إلى المدينة. على الرغم من انشطار هذه التهمة إلى اتهامين إثنين في الشكاية التي تقدم بها الشاعر  ميليتوس رفقة صديقيه الخطيب والدباغ المتحول إلى رجل سياسة إلا أننا نلاحظ أنهما  يشتركان في نفس الجوهر والأساس ، الاتهامان معا يتقاطعان في  عدم إيمان سقراط بآلهة أثينا ، من هنا على ضوء ما تقدم يظهر أن المحرك الأساسي للمحاكمة هو الدين أي أن المحاكمة  ذات محتوى ديني محض ومع ذلك يجب أن نشير إلى  أن سقراط عارض بشدة هذا الطعن في معتقده وإيمانه وقد رفع صوته العديد من المرات أثناء المحاكمة معلنا :” أنا أومن بالآلهة ” لكنه كان  يقول أيضًا و هذا هو منشأ كل مشاكله :” أنا مرتبط بإله شخصي” إنه يؤمن بالآلهة ولكنه يؤمن بإله شخصي يختلف عما اعتاد عليه مواطنوه ومجتمعه فبماذا كان يؤمن سقراط .؟

جوابنا عن هذا السؤال نرجئه إلى حلقتنا القادمة من سلسلة الموت من أجل الحقيقة تراجيديا الفيلسوف سقراط .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى