الفلسفة الحديثة

نقد العقل الخالص لكانط الحلقة الأولى

موقف كانط من الميتافيزيقا الفرق بين الفكر والمعرفة

عبد المجيد طعام / مسارات فكرية

سنتحدث اليوم عن إيمانويل كانط ، إيمانويل كانط فيلسوف ألماني من فلاسفة القرن الثامن عشر ، هو مفكر فاعل في حركة التنوير بل هو مفكر فاعل في الفكر البشري عامة ،لأنه الشخص الذي سيجعل الفلسفة تأخذ منعطفًا جديدا ،بعد كانط تغيرت طريقة التفكير لم نعد نفكر بالطريقة نفسها التي نعرفها خاصة في مجال المعرفة .

أطلق نيتشه على كانط لقب الصيني العظيم ، كان نيتشه يرى أن كانط يشبه ذلك الصيني الذي إن تكلم أمامنا لن نفهمه أبدا ، كانط أيضا فيلسوف يصعب فهم حديثه عن الفلسفة  ،ما كان يكتبه هذا الفيلسوف كان عصي الفهم ، ولكن لا تقلقوا ، سنقوم بإعادة صياغة ما أتى به  كانط سنحاول أن نبسط رؤيته الفلسفية قدر الإمكان ولا غرابة في هذا ، أنتم في ورش الفلسفة للجميع ، مشروع يروم تقريب الفلسفة منكم وتقريبكم من الفلسفة

تحدث كانط عن المعرفة وبشكل أكثر دقة تحدث عن حدود المعرفة ، كما تحدث عن آليات تحقق المعرفة ، وقد بأ مشروعه الفلسفي بطرح سؤال على نفسه : ماذا يمكنني أن أعرف ؟ يبدو السؤال بسيطا ولكنه ينفتح على إشكال فلسفي جد عميق وقبل أن نرى كيف أجاب كانط عن سؤاله يحق لنا نحن أيضا أن نطرح سؤالنا  : لماذا طرح كانط هذا السؤال ؟  يرى كانط أن الفلاسفة كانوا يتحدثون عن أشياء لا يمكن للمرء أن يعرفها أو تحديد حدودها وتعريفها،  ما هي هذه الأشياء ؟ تتبع كانط مسار الفلسفة طيلة قرون واستنتج أن الفلاسفة منذ أرسطو وأفلاطون اهتموا بثلاثة أشياء هي : الله الروح والعالم  .كانت هذه الأشياء تمثل جوهر الفلسفة رغم أنها أشياء غير مرئية، أشياء مختلف حولها ، فائقة الحساسية عصية على الإدراك ، أشياء تدخل في ما يسمى الميتافيزيقيا ،والميتافيزيقا هي ما يوجد وراء المادة ،هي ما ينفلت من الإدراك والملاحظة تتموضع في ما وراء الطبيعة .

استاء كانط من غرق الفلسفة في الميتافيزيقا وانشغال الفلاسفة بالحديث عن الأشياء لا تدركها حواسنا التي تربطنا بعالمنا الخارجي وتجعلنا نتحيز في فضاء المكان والزمان .انتقد كانط اهتمام الفلاسفة بالميتافيزيقا  وإهمالهم لسؤال حاسم هو : هل يمكن معرفة الأشياء المنتمية إلى الميتافيزيقا ؟ يمكن القول أن الجواب عن هذا  السؤال هو الذي سيوجه مشروع كانط الفلسفي وسيؤدي إلى أن يكتب كتابه العظيم ” نقد العقل الخالص” Critique de la raison pure  هذا الكتاب سيغير مسار الفلسفة في العصر الحديث وسيمثل ثورة على التيارات الفلسفية السائدة وفيه عمل على تحديد شروط احتمالات المعرفة ، كما اهتم فيه بالحدود البنيوية للمعرفة. فما هي حدود المعرفة؟

يشرح كانط الحد الأول للمعرفة فيرى أننا لا نستطيع معرفة الأشياء التي لا يمكننا إدراكها ، من هنا يقر بأن تحقق المعرفة يستوجب  الإدراك . من هنا يكون الإدراك هو أساس المعرفة ، والإدراك نفسه يستدعي التجربة وينتج الخبرة،نخلص إذن إلى الاستنتاج التالي : كل معرفة تبدأ بالتجربة. وهذه الجملة البسيطة تؤدي بنا إلى استنتاج محوري لفهم فلسفة كانط ، عندما نتحدث عن أشياء خارج نطاق الإدراك والتجربة  ، فإننا لا نحقق المعرفة ، نكون خارج مفهوم المعرفة ، نحقق الفكر بالتأكيد ولكن ليس المعرفة ،وهناك فرق بين التفكير في شيء ومعرفة ذلك الشيء.

يرى كانط أن هناك أشياء يمكننا التفكير فيها ولكن لا يمكننا معرفتها ، لنفهم نطرح مثالا بسيطا هو كالتالي: يمكن أن نعتقد بأن الحياة تستمر بعد الموت ، معطى يصدقه الكثير من الناس ولكن لا أحد يستطيع أن يكون معرفة عنه كما لا أحد يثمن أن يثبت حقيقة حدوثه  تصديق ، لهذا نقول إن خلود الروح هو موضوع تفكير أو فكر  وليس موضوع معرفة.

إذن الإشكال الفلسفي الذي خاض فيه كانط يطلق من ضرورة تحديد  الفرق بين ما يمكننا التفكير فيه وما يمكننا معرفته ، على ضوء هذا الإشكال الفلسفي سينتقد  كانط الفلاسفة الميتافيزيقيين ، ويرى أنه التبس عليهم الأمر ولم يتمكنوا من الفصل بين المعرفة والفكر إلى درجة أنهم  جعلوا الأشياء التي هي موضوع فكر موضوع معرفة ، خاضوا في المتاهات الميتافيزيقية ،اعتبروها مجالا معرفيا وهي مجال فكري فقط  يعتمد على الإيهام بالمنطق رغم أنه  لا يستند على أي استدلال منطقي  ، لاحظ كانط أن قرونا طويلة مرت دون أن يحسم الفلاسفة في إشكال علاقة الفكر بالمعرفة  وكنوا يرون  أنه من الطبيعي أن يخوض الفلاسفة في ما لا يدرك  وأن يتحدثوا عما ينفلت عن الحواس .

وهكذا نقول بأن كانت برؤيته الفلسفية الثورية وكتابه نقد العقل الخالص جاء ليقول إلى الفلاسفة يجب أن يتوقف هذا العبث ، كفى ، يجب أن تتوقفوا عن البحث في أشياء لا نعرفها ، يجب أن تفتحوا أعينكم وتكفوا عن الحديث لا نعرفها نعرفها ،عليكم أن تخرجوا من الوهم الذي صنعتموه ، وهكذا سيقرر كانط أن يعيد الميتافيزيقا إلى الوضع الذي يجب أن تكون فيه كموضوع للتفكير وليس كموضوع للمعرفة. عندما ثار كانط على الوضع الفلسفي في عصره فقد ثار أيضا على أوهام  العقل الذي اعتبر هو الأداة الوحيدة التي توصل إلى المعرفة ،لقد وضع حدً للاعتقاد بأن العقل يملك كل القوة التي يحتاجها الإنسان لتحقيق المعرفة  وأنه يمكن الاستغناء عن الخبرة والتجربة  للوصول إلى الحقيقة وهكذا سيكون نقد العقل الخالص تمردا على التصورات الفلسفية السائدة عن العقل ، لكن علينا أن نعرف أن كانط بدأ كرتيزيا ، كان ديكارتيا محضا بمعنى أنه كان يتبنى الرؤية الفلسفية  لديكارت التي كانت تمجد العقل وتدعو إلى التخلي عن الحواس كمصادر للمعرفة.كان ديكارت يؤمن بأن العقل هو الطريق الوحيد إلى المعرفة التي تتحقق بالتفكير ودون اللجوء إلى الخبرة، المكتسبة عن طريق التجربة كان ديكارت يردد مقولته أنا أفكر إذن أنا موجود ، لآ يعتد بالتجربة والخبرة الناتجة عنها لأنها مضللة بحكم تدخل الحواس.

كان  مفهوم المعرفة قائما فقط على العقل ، العقل هو المسؤول الوحيد عن إنتاج المعرفة وتم استبعاد الخبرة والحواس والتجربة ، هذا التصور أصبح اليوم متجاوزا  بعد هيمنة  النزعة التجريبية  ، لم يعد من الممكن تصور علم لا يعتمد على الملاحظة ولكن حتى القرن الثامن عشر اعتبر العديد من الفلاسفة وعلى رأسهم ديكارت أن التجربة مخادعة لأن الحواس مضللة وهو نفس ما كان يلح عليه الميتافيزيون كذلك ، كانوا يرون أنه  من الضروري تجاوز الانطباعات الحسية والتجربة الحسية التي  يسميها كانط الحدس الحساس . ما يؤكده كانط هو أن الأشياء الوحيدة التي يمكننا معرفتها هي الأشياء التي يمكن أن يكون لدينا حدس حسي بها ، الأشياء التي يمكن ملاحظتها ، وبهذا تنتهي المرحلة الأولى من التأمل الفلسفي  لكانط في  مسألة المعرفة وهذا ما سعينا إلى تبسيطه حتى نتمكن من فهمه وإدراكه .

في  المرحلة الثانية من تأمله الفلسفي حول مسألة المعرفة سيسائل كانط نفسه سيسألها قائلا : ما أدركه هل هو فعلا الحقيقة أم هومجرد الشكل الذي تبدو عليه الحقيقة؟ هل ما أدركه هو شكل من الحقيقة التي لحواسي ؟  أين هي الحقيقة إذن ؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى