قضايا فلسفية

مفارقة سفينة ثيسيوس الحلقة الأولى

من الأسطورة إلى إشكالية الهوية

عبد المجيد طعام / مسارات فكرية

مرحبا بكم على قناة إنفيساليس للثقافة والفن ـ في هذا اللقاء سنتحدث عن أسطورة سفينة ثيسيوس والإشكالات الفلسفية التي ترتبت عنها وشغلت الفلاسفة طيلة عدة قرون بدءا من العصر اليوناني القديم إلى العصر الحديث ، ونؤكد على أن النقاش الفلسفي الذي أثارته هذه الأسطورة لن يتوقف مادام أن الإنسان موجود على هذا الكوكب ومادام أن بوجوده تتجدد إشكالية الهوية وكل التساؤلات التي تحيط بها , قبل أن نتطرق إلى صلب الموضوع لا مانع من أن نحدد بعجالة معنى كلمة ” مفارقة ” le paradox التي وردت في عنوان الحلقة . تشير كلمة مفارقة في الفلسفة إلى بيان أو قصة تبدأ بفرضية تبدو صحيحة لأول وهلة ، ومع ذلك وبناء على نتائج البحث يتم الاستنتاج بأن ما كان يبدو صحيحا هو بالفعل خاطئ.

سفينة ثيسيوس في تاريخ الفلسفة ، هي لغز قديم يتعلق بالهوية والتغيير عبر الزمن. أشار إليها بلوطارخ ثم تعدلت لاحقًا بواسطة توماس هوبز,. وهكذا نلاحظ  سفينة ثيسيوس أثرت النقاش الفلسفي وأدت إلى ظهور مجموعة من النظريات الفلسفية حول الهوية .

قبل قرون عديدة  وقبل أن يتناول  الفلاسفة وعلماء النفس الجدد مشكلة مدى استمرارية الكائن نفسه عبر الزمن، تطرق المؤرخ الفيلسوف والكاتب اليوناني بلوطارخ هذه المسألة بشكل أكثر وضوحً من أي شخص قبله أو بعده. طرح هذه الإشكالية الفلسفية من خلال ما يعرف باسم “سفينة ثيسيوس” أو “مفارقة ثيسيوس”، le paradoxe de thesis  في سيرته الذاتية حيوات”Lives”.

تحكي أسطورة سفينة ثيسيوس عن ثيسيوس نفسه ،  كان أميرًا شابًا من أثينا في اليونان القديمة. نشأ بعيدًا عن مملكة أبيه إيجيوس تحت رعاية والدته أيثرا. وتحكي الأسطورة أن إيثرا زوجة الملك إيجيوس كانت جميلة جدا أغرت بوزايدون إله البحار وكانت لها مغامرة جنسية معه  ، فأنجبت ثيسيوس ولكن لا أحد يعلم هل ثيسيوس هو ابن بوزايدون أو ابن إيجيوس ملك أثينا الذي كان يشعر بالكثير من الحرج نتيجة المغامرات الجنسية  لزوجته مع بوزيدون إله البحار ، ومخافة أن يصاب ابنها بالأذى أبعدته عن أثينا وعن أبيه المفترض .

عندما بلغ ثيسيوس سن الرشد، علم بأنه ابن الملك وانه الوريث الشرعي لعرش أثينا، فبدأ يطمح للحصول على  حقه الشرعي. انتقل إلى أثينا وحينما وصل أراد أن يثبت جدارته بالخلافة، لكنه في نفس الوقت صدم بأمر مفزع ذلك أنه علم أن أباه إيجيوس ملك أثينا،، يدفع ضريبة سنوية لمينوس ملك كريت الذي انتصر عليه في معركة سابقة .. كانت الضريبة مؤلمة أتعبت شعب أثينا وأفزعته  ، كان على إيجيوس ملك أثينا أن يقدم لملك كريت سبع فتيات وسبعة فتيان ، كل سنة  ليتم وضعهم في متاهة مظلمة يستحيل الخروج منها، كان يقدمهم ملك كريت المنتصر في المعركة قربانا للمينوتور  الذي يسكن المتاهة . المينوتو كائن خرافيً ذكر في كثير من الأساطير اليونانية وهو نصف إنسان ونصف ثور، وحش مفترس يلتهم الفتيان والفتيات.

ليثبت جدارته بخلافة أبيه على عرش أثينا ، قرر ثيسيوس أن يكون  جزءًا من الضريبة ، أن يكون واحدًا من الفتيان السبعة الذين يتم تقديمهم للملك مينوس كل عام. كانت له آمال كبيرة؛ وعزيمة أكبر ليخلص مملكة أبيه من هذه الضريبة القاسية ويخلص فتيان وفتيات أثينا من هذا الوحش . قرر أن يركب السفينة التي ستنقل القرابين إلى كريت ليتمكن من الوصول إلى المينوتور بهدف مصارعته وقتله ليقتله لتنتهي مأساة شباب أثينا  . وهكذا وفي خضم هذه الأحداث المأساوية  يأتي أول ظهور للسفينة  التي ستعرف باسم سفينة ثيسيوس .  كان الملك إيجيوس حزينًا جدًا بشأن ابنه ثيسيوس الشاب اليافع  .وهو يهم بركوب البحر في مغامرة محفوفة بالمخاطر قال لأبيه :” حينما ترى السفينة في الأفق مقبلة إلى أثينا ، راقب يأ أبتي لون الأشرعة ، أن رايتها وقد ، اعلم أنني قتلت المينوتور وعدت ناجيا من المتاهة ، ولكن  إذا مت في معركتي ضد الوحش ستظهر أشرعة السفينة بلونها العادي الأسود.

انطلق ثيسيوس وبقية الفتيات والفتيان في مغامرتهم البحرية ، حينما وصلوا إلى الجزيرة استقبلتهم العائلة المالكة وكانت تضم الأميرة ارديان ، أميرة كريت، وقع الاثنان في حب مجنون. كان هذا الحب بين أمير أثينا وأميرة كريت هو بداية الطريق نحو الخلاص والعودة إلى الموطن بانتصار ثمين على الوحش الأسطوري  ، ذلك وفي اجتماع سري قبل الدخول إلى المتاهة، أعطت الأميرة العاشقة كرة من الخيط وسيفًا لثيسيوس.

وهو يوغل الدخول في المتاهة مع الفتيان والفتيات استعمل ثيسيوس كرة الخيط ليتمك من معرفة وجهة الخروج وتجنب التيه والضياع بتتبع مسار الخيط الذي كان يشد طرفه. حينما وصلت القرابين إلى مستقر المينوتور ، خاض ثيسيوس معركة ضارية ضده وتمكن بعد عراك شديد من أن يسدد ضربة نحو قلب الوحش بالسيف فأرداه قتيلا ، ثم أقفل هو ومجموعته هاربا نحو مخرج المتاهة . ركب الجميع السفينة كما ركبت معهم الأميرة العاشقة وأقفلوا راجعين إلى أثينا دون أن يكتشف الملك مينوس ما فعلوه.

في طريق العودة، توقفت سفينة ثيسيوس في جزيرة ناكسوس. هنا، تختلف القصة في العديد من النسخ، وتتفق بعضها في أن ثيسيوس أنزل آريادن من السفينة وتركها في هذه الجزيرة ،واتجه نحو أثينا من دونها. تحكي نسخة من الأسطورة أن أرديان تزوجت لاحقًا من الإله ديونيسوس.

واصل ثيسيوس طريقه نحو مملكة أبيه ليزف لأهل أثينا خبر تحريرهم من المينوتور ، وهو يقترب من شاطئ أثينا نسي تغيير لون الأشرعة، تركها سوداء عوض أن يضع الأشرعة البيضاء. كان أبوه على الشاطئ يراقب الأفق ، وعندما لاحت أشرعتها كانت سوداء، ظن أن ابنه قتله المينوتور ، سرى في أوصاله الحزن والألم فألقى بنفسه من على صخرة في مياه بحر إيجة وهكذا كانت نهاية الملك مأساوية .

نزل ثيسيوس من السفينة ، سمع بخبر وفاة والده. كان حزينا على وشك الانهيار  لكنه أدرك أن أمامه مسؤولية قيادة شعب أثينا والسهر على راحته ، قبل مسؤولية أن يكون الملك الجديد لأثينا. وتخليدا لذكرى إنجازات ثيسيوس العجيبة، ومأساة الملك إيجيوس تم زضع السفينة في متحف لتعرف الأجيال القادمة بطولات ملكها.

يحكي الفيلسوف المؤرخ بلوتارخ فيقول : “عندما عاد ثيسيوس إلى أثينا ورست سفينته ، شهدت المدينة احتفالات كبيرة ، ونظرا للقيمة التاريخية للسفينة وضعت في متحف لكن كلما مر الزمن فسدت قطعة منها فيعمدون إلى تغييرها، في الأخير اكتشفوا أنهم غيروا كل قطع السفينة ” لم يتوقف الفيلسوف المؤرخ بلوتارخ عند حدود سرد أحداث الأسطورة ،بل طرح سؤالا مهما سيكون منطلق الجدل الدائر بين الفلاسفة طرح بلوتارخ السؤال الإشكالي التالي :” بعد أن تغيرت كل قطع السفينة هل بقيت تلك السفينة هي سفينة ثيسيوس أم أصبحت سفينة أخرى؟؟”

سؤال بلوتارخ نقل السؤال الفلسفي من السفينة إلى الإنسان وبالضبط ما يتعلق بإشكالية الهوية ، غير أن البحث في إشكالية الهوية أدى بالفلاسفة إلى ضرورة التمييز بين أسئلة المعرفة مقابل الأسئلة الميتافيزيقية كيف ذلك ؟عند التفكير في سفينة ثيسيوس، وفي شروط الهوية للأشخاص، من المهم أن نبقي الأسئلة المعرفية منفصلة عن الأسئلة الميتافيزيقية.كيف نمير بينهما ؟ يمكن أن نميز بينهما من خلال المثالين التاليين ، السؤال الميتافيزيقي هنا هو: ما الذي سيجعل هذه السفينة (أو هذا الشخص) واحدة ونفسها عبر الزمن؟ والسؤال المعرفي هو: كيف يمكننا أن نعرف ما إذا كانت هذه نفس السفينة (أو نفس الشخص) أم لا؟

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى