قراءة في كتاب

جنون الفلاسفة:نايجل رودجرز و ميل ثومبثون

جنون الفلاسفة:
بقلم خالد طحطح
يمكن التَّمييز بين ثلاثة أسباب تدعو لكتابة حياة الفلاسفة حاليا، الأول: يتمثل في الحاجة الملحة لفهم أعمقَ لأعمالهم، مرورا بمشوار حياتهم. والثاني: للحكم جيِّدا على أعمالهم من خلال قراءة تنبني على الشكِّ وتبحث عن النَّشاز بين ما أعلن وبين الواقع المعاش. والثَّالث: أن سيرتهم لا تكون موجَّهة بالضَّرورة للمختصِّين، وإنَّما للعاديِّين لمساعدتهم على فهم جيِّد لأفكارهم، ومن هنا تُصبح السِّيرة بديلا عن أعمالهم.
لقد أصبح الفلاسفة موضوع حبِّ استطلاع، لكن بأي طريقة يمكن تناول هذه الشخصيات؟
نصح هنري برغسون من أراد كتابة سيرته ألا يكترث لحياته الشخصية وأن يركِّز فقط على أعماله”. كان مُصِرّاً على وجهة النَّظر التي تقول أن حياة الفيلسوف لا تُسلِّط أيَّ ضوء على مذهبه وتوجُّهاته. ونجد نفس الرأي عند رولان بارط، فالظَّاهر أنه مستعد لأن يفعل المستحيل حتى لا يحتويه تعريف، إنه لا يحتمل أن تتشكل له صورة ويتعذَّب لدى ذكر اسمه، هذا ما يقوله عن نفسه رغم ضمير الغائب الذي استعمله في سيرته الذَّاتية غير المألوفة التي نشرها تحت عنوان رولان بارط بقلم رولان بارط. فما يُكافح ضِدَّهُ هو أن يُصبح شيئا يُدَرَّس، لقد اعتبر السِّيرة نوعا أدبيّاً كريهاً، لأنها في نظره نصب تذكاري مزيف، ولا تمثل الحياة تمثيلا صادقا.
ونجد في الحوار الذي أجراه جيجيك سلافوي حجاجا غير عادي بخصوص الأمور المتعلِّقة بالحياة الشَّخصية. فهي لا تُغذِّي أي اهتمام حقيقي بالنِّسبة إليه، بل اعتبر من الخطأ أن يتحدث الآخرون عن شخصه، لأن المهم هو النَّظرية. أما غادامير فقد وضع في مستهل سيرته الفكرية الذَّاتية القبسة التَّالية: “من الأولى عدم الحديث عن الذَّات”.
في الاتِّجاه الآخر المُناقض تماما نجد بيير ريفارد، الذي سلك مسارا مُختلفا تماما، إذ ركَّز على الحياة الخاصَّة للفلاسفة ولم يهتم بأعمالهم. وإذا أخذنا بالفكرة التي تقول أنَّ الفلاسفة عقل خالص، فريفارد حاول بنهجه المُناقض أن يُبَيِّن لنا أن هذه العقول الخالصة هي كذلك كائنات من لحم ودم. لقد ذكر بيير ريفارد -مثلا- أن كارل ماركس كان فقيرا، وأن صديقه انجلز كان يأتيه بالبيرة والفطور. ووصف قائمة الأطعمة والأشربة والأذواق الغذائية للمفكرين، فذكر أنَّ كَانْط كان يأكل مرة واحدة في اليوم، ولم يتزوج، ولم يخلف أطفالا، ولم يوفق في إنشاء أسرة، وكان صارما في تنظيم وقته، وذكر أن ماركس كان عاشق الأكلات المُتبَّلة، وباسكال كان نباتيا مثل فيتاغورس، وهكذا، لاشيء بقي خفيا من حياتهم اليوميّة.
يتمركز السؤال حول ما إذا كان من الضروري وضع الفرد في إطار حصيلة أعماله. يبدو أن التوجهات تناصر هذا الرأي، حيث أن تناول الحياة الخاصَّة تساهم في إعادة الصِّلة للقطيعة التي سادت طويلا بين الفكر والوجود. فالفهم العميق لأفكار الفلاسفة ينطلق أولا من تتبُّع مسيرة حياتهم، والتَّقييم النَّقدي لأعمالهم لابدَّ أن يمرَّ من العلاقة المُعقَّدة بينهما، من هنا تأتي أهمِّية حياة الفلاسفة، لابدَّ من مُقارنة التصوُّر بالواقع المعاش، لأنَّ القارئ يُطالب بنوع من الانسجام بين العمل والفعل والفكر. فحياة الفيلسوف تتدخل في أعماله، هناك أشياء لا تظهر في الكتابات لكنها مؤثرة ومُهِمَّة ويجب أن نستحضرها كالحياة الخاصَّة.
ثمة نقاش دائم بشأن ما إذا كان من اللازم الفصل بين كتابات المفكرين وبين تاريخهم الشخصي؟ فهل حياتهم لا تمت بصلة لفلسفتهم؟ هل الأمور الخاصَّة مُنفصلة عن تفكيرهم وسلوكياتهم؟ ما الصِّلة بين عقلانيتهم وما يعيشونه خارج قاعة المُحاضرة؟ ذلك ما يُناقشه مؤلفا كتاب جنون الفلاسفة (2015) اللَّذان بحثا في سيرة ثمانية من عمالقة الفلسفة الذين تزداد كلماتهم أهمِّيةُ في حياتنا.
لم يكن هدفهما المُحاكمة أو اتِّخاذ قرار بشأن هذا الفيلسوف أو ذاك، بل المُهمُّ هو إزالة القُدسِيَّة، والتَّأكيد أنَّ الأفكار والقيم والأخلاقيات الثَّابتة ليست سوى مُستنقعات آسنة، إذ من يفكِّر بشكل عظيم قد يُخطئ بشكل عظيم أيضا. إن الحياة غير المُختبرة لا تستحِقُّ أن تُعاش، بهذه العبارة الخالدة لسقراط يفتتح نايجل رودجرز وميل ثومبسون مؤلفهما، والذي حاولا فيه الإجابة عن تساؤل لطالما تكرَّر في العقود الماضيَّة: هل من صلة بين حياة الفلاسفة وأفكارهم؟ وما نسبة التَّطابق بين أعمالهم وبين مُمارستهم لحياتهم الشَّخصية؟
ينطلق مترجم العمل من واقعة استقاها من سيرة المُعالج النَّفسي كارل يونغ، الذي أقام علاقة عاطفية مع مريضة له، ثم تخلَّى عنها حفاظا على مكانته الاجتماعية كونه متزوجا ولديه أطفال، ثم ما لبث أن أقام علاقة أخرى مع مريضة ثانية قبل أن يتخلَّى عنها لذات الأسباب. ليتساءل بعدها: هل من حق الفيلسوف أن يُخطئ؟ وهل خطأه مهني أم أخلاقي؟ وهل خطأه يجعل مؤلفاته غير صالحة للقراءة؟
هل بالإمكان أن يتصرَّف الفنَّانون والشُّعراء والفلاسفة والرسَّامون العظام بشكل سيء وشنيع ويحافظوا في الوقت نفسه على مكانتهم؟ الواقع أنه غالبا ما عزَّزت التَّصرفات السيئة سمعة عدد منهم بعد الوفاة. فلو أن بيكاسو أخلص لزوجته الأولى لربما كان سيُسيء إلى سمعته وفنَّه، والأمر ذاته بالنسبة لفاغنر، الذي أغوى زوجات أصدقائه، ومع ذلك، ألَّف موسيقى جعلته يحظى بلقب ” أعظم العباقرة الذين عاشوا”.
إن حياة العقل لا تقود بالضَّرورة إلى حياة عقلانية، ومن يَسْعَ لإرشادٍ يُخرجه من التَّيهان عبر الفلسفة يجب تحذيره. فكما تستطيع الفلسفة أن تُنير عقل الإنسان تستطيع أن تُظلِّلَه.
كان ميشيل فوكو يستخدم الجهتين معا بطريقة سادية ومازوشية. وكان له مِنظار يتجسَّسُ به من السَّطح على النَّاس، ووفاته بسبب مرض الإيدز كانت صادمة، وتحوم الشّكوك بشأن معرفته بمرضه وتعريضه حياة آخرين للخطر عمدا.
أما سيمون دوبفوار فكانت تُقدِّم تلميذاتها وصديقاتها لجان بول سارتر كهديَّة بعد أن تقضي مِنهنَّ وطرا. ومن المعلوم أن جون جاك روسو عاش على معونات الأغنياء، وتخلى عن خمسة من أبنائه في الميتم، ولم يرد أن يعرف عنهم شيئا.
مارتن هايدجر بدوره خان معلمه ادموند هوسرل وتخلَّى عن عشيقته حنة آرندت خلال مرحلة صعود النازية. فريديريك نيتشه تحوم الظُّنون بشأن علاقة سفاحية جمعته بأخته. كما أن غالبية السير عنه أكدت التقاطه مرض السفلس من دور الدعارة التي كان يرتادها باستمرار.
خنق لويس ألتوسير زوجته هيلين في لحظة هذيان. ورمى جيل دولوز بنفسه من الطَّابق السَّابع للتخلُّص من ضيق التَّنفس الذي قهره.
أرتور شوبنهاور عاش معزولا بدون أسْرة، وكانت علاقته سيِّئة مع والدته، لدرجة أنه لم يرها خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياتها. وبدوره اشتهر برتراند راسل بقسوته اتجاه زوجته الأولى أليس، فقد كان يتركها تئن من وطأة ألم ورم الثَّدي في غرفة النَّوم، وينزوي في مكتبه بالغرفة المجاورة، وقد تخلى عنها فيما بعد بشكل نهائي.
لودفيغ وتغنشتاين تلميذ راسل اشتهر بـالغطرسة وتقلب المزاج، وقد لجأ إلى العنف القاسي حين كان معلما بإحدى المناطق النائية بالنَّمسا، إذ سحب فتاة من شعرها لفشلها في فهم قاعدة رياضِيَّة، وضرب أخرى بِقُوَّة لدرجة أنَّها نزفت من أذنيها، وانتهت أيَّامه كمدرِّس بشكل مُخزٍ، حيث صرخ في وجه طفل مريض مما استوجب نقله للمستشفى. وفي جلسة التَّحقيق معه كذب بشأن درجة العنف التي استخدمها.
ليس هناك من شخص معصوم، وليس الفلاسفة حُكماء ولا قِدِّيسين يعيشون حياة الفضيلة التي لا تشوبها شائبة، وهم لم يدعوا ذلك، لكنَّنا نتوقَّع منهم سلوكا أكثر نبلا وحكمة، لكن هل عيوبهم الفردية تُبطل استنتاجاتهم الفكرية؟ إنه سؤال سيظلُّ مثار جدل على الدَّوام، إذ من المُستحيل القول بالفصل التَّام ما بين أعمالهم ونقاط الضعف في حياتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى