قراءة في كتاب

قراءة في دين الإنسان لفراس السواح

كثيرًا ما يُقال لنا بأن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدًّا للفكر الديني والميثولوجي، وأنها بذلك قد حرَّرت العقل من شروطه القديمة. وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكلٌ أدنى من أشكال النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأرقى والأعلى. واعتمادًا على تَكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنقد، فإننا نقبل بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل، هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. غير أن نظرةً جديدة غير متحيزة على مسار الحياة الفكرية للإنسان، تُظهر لنا بوضوحٍ أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونًا عديدة قبل أن يُبعَث مجددًا في العصور الحديثة، متوكئًا عصًا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متَّقِد، على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأول، فقد بقي أسيرَ التطورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معًا فضل وضع أسُس التفكير العلمي الحديث.
إن التاريخ القريب جدًّا لنجاح العلم والفلسفة في ترسيخ أقدامهما، وما نراه من مقاومة عنيدة للفكر الديني في كل ثقافة من ثقافات العالم الحديث، يجعل من تقسيم تاريخ الفكر إلى مراحل أربع يتوِّجها العلم، مسألةً نظرية لغرض الدراسة، لا أمرًا فعليًّا يعكس واقع الحال. لقد امتصَّ الفكر الديني صدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يُزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. في مطلع القرن التاسع عشر، أنهى العالم الفلكي والرياضي المركيز دي لابلاس مؤلَّفه الموسوعي الضخم عن ميكانيك الفضاء، معتمدًا على حسابات نيوتن وقوانينه، فسار بفكرة الآلة الكونية الجبَّارة التي ابتدعها نيوتن إلى نهاياتها القصوى. وعندما عرَض مؤلَّفه على الإمبراطور نابليون بونابرت، قال له بونابرت: لقد قيل لي إنك قد وصفت في عملك هذا نظام الكون برُمَّته، ولكن من غير أن تشير من قريب أو بعيد إلى خالقه! فأجابه لابلاس: مولاي، إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي.١ غير أن علماء اليوم يُظهرون تواضعًا أكثر من سابقيهم رواد النهضة العلمية، وهم لا يرون غضاضة في الإفصاح عن صلة الفكر العلمي بالفكر الديني السابق عليه.
إن ما أود التوكيد عليه هنا هو أن الدين و الفكر الديني ليس مرحلة منقضية من تاريخ الفكر الانساني، بل هو سمة متأصلة في هذا الفكر، وإن كانت هذه السمة قد أعلنت عن نفسها زمناً قبل غيرها، فكان الدين مصدراً بدئياً للثقافة الانسانية، فإن كل المؤشرات تظل على أنه مازال حياً ومؤثراً بطريقة لا يمكن تجاهلها، وبهذا لن يتسنى لنا أبداً فهم الحاضرالفكري الغني للإنسان، إذا نحن أبقينا على هذا المصدر البدئي والمحرض الدائم في دائرة الظل، أو تابعنا النظر إليه بمفهوم عضرالتنوير الأوروبي، باعتباره لغزاً أو فوضى فكرية مرتبطة بطفولة الجنس البشري.
📖 دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني بقلم فراس السواح
#نبيل_الجزائري
📖 دين الإنسان : بحث في ماهية الدين منشأ الدافع الديني بقلم فراس السواح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى