قضايا فلسفية

الفلسفة وكيف نقرؤها.. (جزء ٢ / ٢)

الفلسفة وكيف نقرؤها.. (جزء ٢ / ٢)
(مشير باسيل عون)
• مباحث ولغة الفلسفة.
حقيقة الأمر أن الفلسفة لا تستقيم على مذهب أو تصور واحد، ولا تستقر على نهج تجريدي فريد، ولا تعترف بحقيقة مطلقة. في الفلسفة مباحث شتى، منها الأصعب ومنها الأسهل. من المباحث الصعبة في الفلسفة الأونطولوجيا والميتافيزياء واللاهوت والإبيستمولوجيا (نظريات المعرفة) والمنطق الصوري وفلسفة العلوم، وكل المساعي التأصيلية النظرية المجردة. من المباحث السهلة فلسفات الأخلاق والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والفن، لذلك حين يقع القارئ المتوسط الثقافة على نص فلسفي يعالج كينونة الكائنات بوصفها الماهية المجردة المطلقة، لا بد له من أن يتهيب المقام وأن يرتبك إرتباكاً عظيماً يفضي به إلى الإعراض عن القراءة. أما حين يعثر على نص فلسفي مستل من مبحث فلسفة السياسة ينظر في قضايا الديمقراطية وتداول السلطة فإنه سرعان ما يرتاح إلى المسألة ويرضى بالمجازفة.
خلاصة القول إن صعوبة الفلسفة تنجم عن ثلاثة أسباب: طبيعة الحقل المعرفي، والتجريد النظري المفرط، وخصوصية المسائل الفلسفية التي تعتني بشؤون الإنسان الحياتية. غير أن ثمة سبباً خفياً ينحجب وراء الأسباب الثلاثة هذه، وهو اللغة التي بها يتناول الفلاسفة القضايا المطروحة، سواء في المباحث المعرفية الصعبة أو في المباحث السهلة. غالباً ما نرشق الفلاسفة بتهمة تعقيد الأمور. والعبارة الشعبية الشائعة (لا تفلسف الأمور!) خير دليل على سقوط بعض الفلاسفة في محنة اللغة المعقدة الشائكة الصعبة. إن الجانب اللغوي هذا لا يرتبط بدعوة الفلسفة على قدر إرتباطه بخلفية الفيلسوف وذهنيته وثقافته وطقوسه الكتابية. من الفلاسفة من يهوون التعقيد المتعمد، فيغلفون عباراتهم بضباب كثيف من الغموض الإيحائي. ومنهم من ينهجون السبيل اليسير ويعتمدون بلاغة السهل الممتنع، فيفصحون عن أعمق الأفكار في أبسط العبارات.
لا بد من الإعتراف بأن للفلسفة لغة خاصة لا يليق بها أن تتحول إلى سردية وجدانية تأوهية، أو أن تنقلب إلى تحليلية تبسيطية سطحية، ذلك بأن المسائل التي تعالجها الفلسفة تصيب عمق الوجود الإنساني، وتتطلب الدقة والإتقان والوضوح والصرامة والإصابة. ومن ثم يعتقد بعض الناس أنهم عاجزون عن التفكير الفلسفي بسبب قلة زادهم المعرفي، أو لعلة كامنة في بنيتهم الذهنية الفطرية. لن نقسم الناس فريقين: النجباء والمعدومين. لا يصح مثل هذا الإختلاف إلا في مسائل العلوم النظرية الشديدة التعقيد، كعلم الرياضيات المحض. دليل على ذلك أن الفلسفة مقترنة بحياة الناس إقتراناً وثيقاً يفوق إرتباط أي علم آخر من العلوم الإنسانية والوضعية. فالإنسان يستطيع أن يحيا سعيداً إذا عجز عن فهم المعادلات الرياضية المفرطة في التجريد، ولكنه لا يمكنه أن ينعم بحياته إذا أعرض عن إستجلاء طبيعة الوعي والضمير والوجدان والباطن والجسد والروح والنفس والعقل والفكر والعاطفة والإحساس والحدس، وأهمل معنى الكرامة والسعادة والحب والأخوة، وأغفل مقام الحق والواجب والمساواة والحرية والإبداع والفن، وتجنب النظر المتروي في مفاهيم البحث والشك والتردد والخطأ والصواب والمساحة الرمادية الفاصلة بينهما والقلق والإضطراب والألم والمعاناة. هذه بعض من القضايا الوجودية الملحة التي تستنهض وعي الإنسان العادي الذي يرغب في فهم أساسات الوجود.
بعض الناس مفروزون للإضطلاع بمسؤوليات التخصص الدقيق بمجالات البحث الفلسفي على مستوى الشهادات الجامعية العليا. ولكني ليس هناك أذهاناً بشرية فلسفية وأخرى غير فلسفية، إذ إن الفلسفة تعتني بالإنسان في جميع أبعاد إختباراته الحياتية. ومن ثم، ينبغي للفلاسفة وأساتذة الفلسفة ومؤرخيها والقيمين على مصائرها أن يتقنوا لغة التواصل الإنساني الأبسط من أجل خدمة الإنسان وإستنهاضه للإعتناء بمشكلات حياته إعتناءً فلسفياً. من الأسباب الجوهرية التي تستولد الأزمات الوجودية أن معظم الناس يرتجلون الأمور ويتسرعون في معالجة مسائل التوتر في العلاقات، في حين أن الفلسفة تقدم لهم نموذجاً راقياً من المنهجية التحليلية الموضوعية التي تساعدهم في معالجة أشد المعضلات الحياتية إزعاجاً وإرباكاً.
• هدف الفلسفة.
يجدر بالفلسفة أن تخاطب الوجدان الإنساني الفردي والجماعي، فتتقن لغة التواصل والتبليغ حتى يفهم الجميع ما تروم أن تكشف عنه من خطير المسائل ورصين المباحث. من أعظم المعاصي التي يمكن أن ترتكبها الفلسفة طلب التنظير من أجل التنظير، أي إستخدام المفاهيم المجردة الضبابية الغامضة وإستثمارها في توسعات وتحليلات وفتوحات لا يفقه منها القارئ إلا النزر اليسير. دعوة الفلسفة أن تساعد الإنسان في فهم معنى حياته، وإدراك رهانات الوجود، وتدبر مشكلات الإنخراط في معترك العلاقات الشائكة بين الناس، وفي مسار الترابط الوثيق بين الطبيعة والوعي، ذلك بأن الإنسان كائن تاريخي يدخل في علاقة جدلية تربطه بالكون الفسيح، وبالطبيعة المكتنفة، وبالبيئة الحاضنة. جراء هذا كله، لا بد للفلسفة من أن تفسر بالعبارة الدقيقة الواضحة طبيعة هذا الإنخراط وخصائصه ومشكلاته وتحدياته وآثاره.
يجب على القارئ أن لا يخاف من النص الفلسفي، وذلك من بعد أن إتضحت رسالة الفلسفة. عليه أن يتفرغ للقراءة اليومية، وأن يطلع على تاريخ الأفكار في مساره الأرحب، وأن يتدبر أبرز المفاهيم الفلسفية الشائعة حتى يستطيع أن يتناول النص الفلسفي من غير إرتجاف أو إرتباك. لا بد، والحال هذه، من الإستنجاد ببعض الأمثلة الدقيقة، من أقوال الفلاسفة أنفسهم.
في كتاب “الخواطر” يعلن الفيلسوف الفرنسي #باسكال أن للقلب تسويغات عقلية يجهلها العقل. حين يقع نظر القارئ على مثل العبارة الفلسفية هذه، لا بد له من أن يدرك أن منطق العقل يخالف نبض القلب، وأن الوجدان العاطفي يحث الإنسان على السلوك مسلكاً يخالف ما تفترضه الحكمة العقلية في أحوال شتى من الحياة اليومية.
في “موسوعة العلوم الفلسفية”، يصرح الفيلسوف الألماني #هيغل بأن كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي. العبارة عسيرة المنال، لا سيما إذا كان المرء يجهل فلسفة هيغل المثالية التي تفترض أن الواقع التاريخي ينطوي على بذور الفكرة المثالية، ويسير بحسب ما تمليه عليه من منطق التطور الجدلي. معنى ذلك أن كل ما يحدث في التاريخ يخضع لقانون عقلاني، ومقصد مثالي، وغاية جامعة. حتى أحداث المصادفة والشرور والمآثم تخضع لمكر العقل وحيله من أجل إنضاج التاريخ الإنساني وبلوغ المطلق الأسمى.
في الشذرات الفلسفية التي أنشأها الفيلسوف الألماني #نيتشه عام ١٨٨٧ ونشرت بعد مماته، يعلن أن “ما من وقائع، بل تأويلات وحسب”. حين يدرك القارئ النبيه أن نيتشه كان يرفض كل المنظومات والمؤسسات والشرائع والأحكام التي تفرض على الإنسان فرضاً علوياً، يدرك أنه فيلسوف يؤيد الحرية الإبداعية في فهم الحياة. فلا ينسب إلى الوجود حقائق صلبة، راسخة، قاطعة، نهائية، بل يترك لكل إنسان أن يصور الحياة بحسب إختباراته الوجدانية الخاصة.
أما القول الفلسفي الأخير فهو من كتاب الفيلسوف الفرنسي بول #ريكور “الذات عينها كآخر”، وقد صاغه على هذا النحو “أقصر طريق من الذات إلى الذات يمر بالآخر”. لا ريب في أن مثل هذا الإعلان يدل على مقام الإنسان الآخر في وعي الذات التي لا يمكنها أن تدرك هويتها ومقامها وفرادتها إلا إذا خالطت الآخر، وإحتكّت به، وتفاعلت وإياه، وعاينت ذاتيتها في مرآته التي تعكس لها وجهاً آخر يختلف عن الوجه الذي ترسمه لنفسها. ومن ثم، فإن الآخر ضروري في تعريف الذات، إذ إن الإنسان لا يمكنه أن ينغلق على هويته ويكتفي بما ينجلي له منها. الآخر نعمة للذات شرط أن تكتشف الذات مقامه المغني، وشرط أن يصون الآخر كرامة الذات التي تأتي إليه.
هذه الأمثلة تبين للقارئ أن القول الفلسفي ليس منعزلاً عن مشاغل الناس وهمومهم وشجونهم وقضاياهم ومشكلاتهم وأسئلتهم وإرباكاتهم. يكفي الإنسان أن يعتصم بالعزم الصادق، وأن يجتهد الإجتهاد اللائق من أجل إكتساب الأساسات المعرفية التي تهيئه لقراءة النص الفلسفي. ليست كل النصوص الفلسفية تحمل إلينا وعود الابتهاج بإعتلان المعاني المضيئة المفيدة الهادية، ولكن المراس اليومي يجعلنا نفوز بمنعة ذهنية وصبر مقتدر وخبرة متعاظمة، فلا نعود نتهيب القول الفلسفي ونتهرب من التفكير الإستيضاحي والنقدي الذي يستطيع أن يهذب خلقنا ويطور وعينا ويرتقي بنا إلى مقام النضج الإنساني الرفيع.
الصورة: لوحة “الفيلسوف” – لوكا جوردانو (١٦٦٠) (من سلسلة لوحات: عشرة فلاسفة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى