الفلسفة الإسلامية

ابن الهيثم والفلسفة: تأمّلات في سيرته الذاتية

جلال الدريدي

ملخّص: إنّ ما حدا بنا، اليوم، العودة إلى ابن الهيثم هو إحراج، لعلّه لا يتعلّق باستئناف النّظر في توجّه علميّ طبع العصر الوسيط وألقى بظلاله على عتبات الحداثة العلميّة، فأحدث بذلك ”ثورةً بالمعنى الكوبارنيكي“ أو ما عبّر عنه جيرار سيمون (Gérard Simon) بـ ”ثورة عقليّة“ (Une révolution intellectuelle) في مجال البصريّات، ومهدّ لاكتشافات علميّة عديدة، وإنّما يتعلّق بتدبّر جملة من الشكوك حول هويّة ابن الهيثم، لا سّيما وأنّ الترجمات التي حفظت لنا سيرة صاحب المناظر تثير إشكالا بيوغرافيا محوريا صاغه عبد الحميد صبرة كالتالي: أواحدٌ ابن الهيثم أم اثنان؟ One Ibn al-Haytham or Two?
إنّ طرح هذا المشكل في هذا المقام لا يعني أنّ الهدف هو فصل المقال فيما بين الفرضيتين من الانفصال أو الاتّصال، بل بهدف تدبّر هويّة ابن الهيثم كما تشكلت في متونه. ومن أجل ذلك، فإنّ هذا المشكل إذ يضعنا أمام إشكاليّة بيوغرافية، فإنّه ينطوي في صميمه على إشكاليّة معرفيّة وهي إشكاليّة العلاقة بين الفلسفة والعلم من ناحية وبين النّظر والعمل من ناحيّة أخرى.

كلمات مفاتيح: سيرة ابن الهيثم الذاتية، أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، الفلسفة، التعاليم.

مقدّمة

كثيرا ما يحجب الاكتشاف الذي اشتهر به عالم من العلماء أعماله الأخرى كلّها، فيعرض عنها الباحثون مقتصرين على تحليل ذلك الاكتشاف. وإذا ما تأتّى لنا أن ننقل معنى هذا الكلام إلى مشروع ابن الهيثم(ت. 432هـ/1041م) ذاته، فإنّنا سنرى أنّ هذا الأمر ينسحب على صاحب المناظر وقائمة مصنّفاته التي اختلطت فيها أعماله بأعمال ما قيل إنّه شخص آخر؛ لذلك سنحاول هنا أن نستجلي ما وسعنا مظاهر ذلك الجانب المُهمَل من القول الهيثمي، لعلّنا نهتدي إلى كشف الرّوح التي تسري في مختلف أعماله الجديرة بالتّمحيص مع كثير من التلطّف في تفهّم معانيها ومقاصدها، لأنّ الأمد الذي بيننا وبينها قد لا يجعلنا اليوم نألف بسهولة بعض اصطلاحاته وعباراته، وماهية ما كان يعتمل في مشروعه العلميّ، بل وربّما حتّى الفلسفي!

ولكن يبقى القصد الأبعد من هذه المحاولة هو تدبّر إمكانات التّفكير في محتوى هذه السيرة، تدبُّرا لا نرمي من ورائه فصل القول فيما إذا كان ابن الهيثم واحدا أم اثنين، فصلا جازما، بقدر ما نراهن على كشف الجانب الذي ظلّ غائبا ولم يرد في المناظرة التي حصلت بين رشدي راشد وعبد الحميد صبرة، وكلاهما قد عاشره طويلا، بحثا وترجمةً وتحقيقا.

أوّلا: سيرة ابن الهيثم الذاتيّة

على سبيل التّوطئة للأمور التي يدور عليها بحثنا هذا، علينا أن نذكّر في البداية أنّه على الرّغم من الاهتمام الذي حظي به ابن الهيثم في بحوث أشهر مؤرّخي ومفهرسي تراجم الحكماء وأخبار العلماء كـصاعد الأندلسي[1] (ت. 462هـ/1070م) وظهير الدين البيهقي[2] (ت. 565هـ/1169م) وجمال الدين القفطي[3] (ت. 646هـ/1248م) وابن أبي أصيبعة (ت. 668هـ/1270م) ورغم الاهتمام الذي حظيت به بحوثه البصريّة وكشوفه العلميّة في الشرق والغرب منذ التّرجمة الأولى لكتابه العمدة وسِفْرِه الضّخم المناظر إلى اللاّتينيّة في نهاية القرن الثاني عشر،[4] حيث حمل ابن الهيثم اسم الهازن (Alhazen) نسبة إلى اسمه الحسن، ورغم أنّه لُقّب منذ القرن الثاني عشر بـ ˮبطلميوس الثاني“[5] (Ptolemaeus secundus) ذي الدّلالة، فإنّ كلّ ذلك لم يُبدّد الحيرة المُقضّة التي باتت تُربك عمل الباحثين ونظر المؤرّخين في ما إذا كان صاحب المناظر هو نفسه في تراجم المُترجمين وفهارس المُفهرسين.

هي ذي المفارقة التي أثارها رشدي راشد في الجزء الثاني من افتتاحيّة كتابه: الرّياضيّات التّحليليّة بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة.[6] فعلى الرّغم من أنّ المقالة التي أوردها ابن أبي أصيبعة لترجمة سيرة ابن الهيثم في كتابه: عيون الأنباء في طبقات الأطباء،[7] تعتبر الأكثر إفاضة والأكثر تداولا عند كُتّاب السّير المُحدثين وبُحوث النُّظار المُحصّلين، فإنّها ظلّت مع ذلك— من وجهة نظر رشدي راشد—متردّدة بين سيرة ˮالحسن بن الحسن بن الهيثم أبو على المهندس البصري“[8]—الفيزيائي والرّياضي— ومؤلّفاته، وسيرة ˮمحمد بن الحسن بن الهيثم“[9] —المتكلّم والفيلسوف—، بل أكثر من ذلك فهي رفعت الحجاب عن أعمال كنّا نحسبها لردح من الزّمان غير يسير ˮللعالِم“[10] ˮالحسن بن الحسن بن الهيثم أبو علي المهندس البصري نزيل مصر، صاحب التّصانيف والتّآليف المذكورة في علم الهندسة،“[11] فنسبت للأوّل مؤلَّفات الأخير، فاختلط الحابل بالنّابل.

إنّ ما يُفسّر، حسب راشد، الخلط الذي حصل عند تدوين سيرة ابن الهيثم، والمسؤول عن الالتباس الذي حدث —وفقاً لما نعرفه حتّى الآن— هو ابن أبي أصيبعة. فالمقالة التي أوردها لترجمة سيرة صاحب المناظر: ˮمركّبة من عدّة أجزاء من دون اعتبار للتّلاحم فيما بينها من قِبَل المؤلّف أو من قِبَل أحد من بعده، فهو يبدأ بمقدّمة ثمّ يروي أقوال المهندس المعاصر له علم الدين، ويتابع مورِداً حرفيّاً السيرة الّتي كتبها القفطي، ثمّ ينسخ السيرة الذّاتيّة وقائمة مؤلَّفات محمد بن الحسن، ويختم المقالة بنسخ قائمة مؤلّفات الحسن بن الحسن حتّى تشرين الأول/ أكتوبر 1038م. إنّ الأمر يتعلّق بإلصاق لمقاطع مأخوذة من مصادر مُختلفة وغير متجانسة، بحيث لا تتمكّن المقدِّمة من إخفاء مظاهر التّنافر.“[12]

المهمّ في كلّ هذا —كما أفاد بذلك راشد— أنّ ابن أبي أصيبعة يعتبر الحسن بن الحسن بن الهيثم ومحمد بن الحسن بن الهيثم شخصا واحدا، وأنّ هذا الرأي قد ساد حتّى اليوم. ومن ثمّة، فإنّنا واجدون أنفسنا أمام سؤال ما انفكّ يلحّ على الباحثين في محاولتهم معرفة هويّة ابن الهيثم العلميّة أو معرفة نوع فلسفته وتحديد مبادئها ومعالمها، ومكانته في تاريخ الفلسفة العربيّة، أو تحديد وجوه الشّبه والاختلاف بينه وبين فلاسفة اليونان. فلا يستطيع الباحث أن يتجاوز دائرة الاستنباط أو حتّى التّخمين من القليل الذي كان معروفا عنه أو من أسماء كتبه، وأخيرا من تقدير المفكّرين والمؤرّخين لمجهوده الفكري ونوع هذا المجهود. فمن رأى كثرة كتبه في العلوم التّعاليميّة (الرّياضيّة) مال إلى الحكم بنزعة عنده تميل إلى آراء المحصّلين من أهل التّعاليم (Les mathématiciens). ومن رأى مصنّفاته في نواح ومسائل من علم الكلام لعهده أو رأى مشاركته لمتكلّمي عهده من المعتزلة في مجادلاتهم وردودهم ومؤلّفاته في المسائل العمليّة، كان على حقّ في استنباط نوع المجهودات الفلسفيّة لصاحبها المربّي والمناظِر والفيلسوف. ولهذا ساغ طرح سؤال: أين يمكن أن نضع ابن الهيثم؟ وهل يستند هذا الرأي إلى أساس أم أنّه مجرّد خلط بسيط بين اسمين؟

إنّ هذا السؤال على درجة من الأهميّة، لأنّ صحّة نسبة بعض المؤلّفات إلى صاحب المناظر مرهونة بالجواب عنه.

ولكن، قبل معالجة هذه الأسئلة لابدّ من الإشارة، هاهنا، إلى أنّ سيرة ابن الهيثم لم تُدوَّن إلاّ بعد قرن من وفاته على يدي ظهير الدين البيهقي. ولعلّ أدنى ما يجده القارئ في متناول يده من بيانات، إذا رغِبَ في معرفة ما كُتِب عن ابن الهيثم ومن يكون، هي المراجع التي تعود إلى القرن الثالث عشر أي بعد قرنين من وفاته[13]، وأهمّها رواية القفطي في كتابه أخبار العلماء بأخبار الحكماء، وقد كانت أكبر مجموعة من آرائه مذكورة في مقالة له حفظها لنا ابن أبي أصيبعة في مؤلّفه عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، والمأخوذة بدورها عن نصّ أُكتشف حديثا في مخطوطة مكتوبة سنة 556هـ/1161م موجودة في لاهور.[14] وقد كان المعروف عن ابن الهيثم[15] حتّى عهد غير بعيد، قليلا جدّا عن ظروف حياته، ومهنته والوسط العلميّ الذي عاش فيه، كما لم يكن لابن الهيثم في أيّ من الصّناعات معلّم يُنسب إليه، وعن هذه القضيّة أفاد ابن أبي أصيبعة في ديباجة مقالته عن ابن الهيثم قائلاً: ˮهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، أصله من البصرة، انتقل إلى الديار المصريّة وأقام بها إلى آخر عمره.“[16]

غير أنّ هذا الإعلان لم يكن حاسما ونهائيّا، لأنّ الرّسالة البيبليوغرافيّة التي حفِظها ابن أبي أصيبعة لترجمة سيرة ابن الهيثم، جاءت مخيّبة للآمال، حيث اختلط فيها الحابل بالنّابل، فشابها من أجل ذلك اضطراب أو خفاء، خاصّة وأنّه أورد ثلاث قوائم مختلفة، ينسب فيها الأولى والثانية لأبي علي محمد بن الحسن بن الهيثم، ويختم ترجمته بقائمة ثالثة وجدها لكتب ابن الهيثم دون أن يذكر مصدرها أو ذكر الاسم الثلاثي لصاحبها. ويمتدّ هذا الفهرست الأخير (القائمة الثالثة) إلى سنة 429هـ/1038م أي سنة أو سنتين قبل وفاته، أي ما كتبه ابن الهيثم في الفترة الممتدّة بين سنة 419هـ/1028م إلى سنة 429هـ/1038م.

وأمّا القائمة الأولى فقد نقلها ابن أبي أصيبعة، كما يقول، من خطّ ابن الهيثم في مقالة له فيما صنعه وصنّفه من علوم الأوائل إلى آخر سنة سبع عشرة وأربعمائة لهجرة النبي صلى الله عليه وسلّم الواقع في شهور سنة ثلاث وستين الهلالية من عمره.“[17] وتنقسم هذه المقالة إلى قسمين، يحتوي أولهما على 25 مصنّفاً صنعها ابن الهيثم في العلوم الرّياضيّة، ذَكر منها: كتاب في تحليل المسائل الهندسيّة، مقالة في الحساب الهندي، أجوبة سبع مسائل تعليميّة سئلت عنها ببغداد فأجبت، رسالة في برهان الشكل الّذي قدّمه أرشميدس في قسمته الزاوية ثلاثة أقسام ولم يُبرهن عليها.

ويحتوي القسم الثاني على 44 مصنّفا من مصنّفاته في العلوم الطّبيعيّة والإلهيّة[18] وكتب أخرى لا تندرج عادة في العلوم المذكورة وهي: رسالة في صناعة الشعر مُمتزجة من اليوناني والعربي، مقالة في الفضل والفاضل، مقالة في تشويق الإنسان إلى الموت بحسب كلام الأوائل، مقالة في طبيعتي الألم واللذّة، ومقالة في طبيعة اللذّات الثلاث الحسيّة والنطقيّة والمعادلة. هذا إضافة إلى مؤلّفات تنتمي إلى آداب الكتّاب في الإدارات والمراسلات، ذَكَر منها: كتاب في صناعة الكتابة على أوضاع الأوائل وأصولهم وعهد إلى الكتَّاب، بالإضافة إلى رسالة أخيرة يقول ابن الهيثم إنّه بيّن فيها ˮأنّ جميع الأمور الدنيويّة والدينيّة هي نتائج العلوم الفلسفيّة، وكانت هذه الرّسالة هي المُتمّمة لعدد أقوالي في هذه العلوم بالقول السبعين.“[19]

هذا وقد أورد ابن أبي أصيبعة مقالة ثانية بخطّ المُصنِّف نفسه، جاء في أوّلها ”ما صنعه محمد بن الحسن ابن الهيثم بعد ذلك إلى سلخ جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وأربعمائة.“[20] أي ما صنّفه ابن الهيثم بعد ذي الحجّة سنة 418هـ/1027م إلى سلخ جمادى الآخرة سنة 419هـ/1028م؛ وتحتوي هذه القائمة على 21 مصنّفاً في شتّى المسائل الرّياضيّة والطّبيعيّة والإلهيّة، وتضّم تلخيصات وردوداً في الطّبيعيّات والإلهيّات ورسائل في علم الكلام[21] منها رسائل في الردّ على المعتزلة رأيهم في حدوث صفات الله تعالى ورأيهم في الوعيد. وفي آخر المقالة الثانية أفاد ابن أبي أصيبعة قائلاً: ˮوهذا آخر ما وجدته من ذلك بخطّ محمد بن الحسن بن الهيثم المصنّف رحمه الله.“[22]

ويختم ابن أبي أصيبعة ترجمته بفهرس وجده لكتب ابن الهيثم إلى آخر سنة 429هـ/1038م، ويحتوي هذا الفهرس على 92 مُصنّفاً. ويميل الأستاذ عبد الحميد صبرة إلى اعتبار القائمة الأخيرة هي قائمة النّضج ˮإذا صحّ أنّ هذه القائمة تحتوي على ما وضعه المُؤلِّف في المدّة التّالية لجمادى الآخرة سنة 419هـ إلى آخر سنة 429هـ، أي خلال العشر السنوات الأخيرة من حياته بعد أن جاوز الرابعة والستين من عمره.“[23]

بيد أنّه علينا أن نلاحظ، أنّه لا المقالة الأولى ولا الثانية تُعطيان مؤشّرا واضحا عن مكان كتابتهما ولا عن مكان وجود الكاتب، وهو ما يرجّح أنّ ابن الهيثم قد أقام فعلاً في بغداد في الفترة الفاصلة بين 417 و419 هجريين،[24] وهذا وارد من خلال بعض العناوين كـعنوان مقالة عن سبع مسائل تعليميّة سئلت عنها ببغداد فأجبت، وأخرى أجاب فيها عن مسألة هندسيّة سئل عنها ببغداد في شهور سنة ثمان عشرة وأربع مائة. ويبدو أنّ المصنّفات الواردة في هذه القائمة تعكس ما كان يدور في بغداد في تلك الفترة من صراعات تتعلّق بالعديد من المسائل المنطقيّة والطبيعيّة والعقديّة، خاصّة وأنّ فلسفة أرسطوطاليس كانت مطروحة للنّقاش والمجادلة والشّرح، في أقسامها الثلاثة المذكورة وكانت المدرسة البغداديّة قد برعت في هذا الشأن، ولكن ˮالتراجم التي جعلته يعيش في الكوفة والبصرة وفترة نضجه في مصر قد تغاضت عن هذا الأمر.“[25]

ومن المُفيد جدّاً أن نشير، هاهنا، أنّ معظم ما وصل إلينا من مؤلّفات ابن الهيثم قد ورد في هذا الفهرس أو المقالة الثالثة التي أوردها صاحب طبقات الأطبّاء في ترجمته لسيرة صاحب المناظر دون القائمتين الأوليين، وذلك باستثناء حالات قليلة بعضها على الأقلّ مشكوك فيه. وقد أبى الدّهر إلاّ أن يقضي على الكثير من هذه المؤلّفات، وما بقي، فقد كان حظّ المكتبات الغربيّة منه أكثر من حظّ المكتبات العربيّة. وهذا الفهرس يكاد لا يحتوي إلاّ على الكتابات الرّياضيّة من حساب وجبر وهندسة وفلك ومناظر؛ والمؤلّفات الوحيدة التي يذكرها خارج هذه العلوم هي التّالية: مقالة في الأخلاق، مقالة في آداب الكتّاب، كتاب في السياسة من خمس مقالات، على عكس فهرس لاهور الذي جاء مخروماً في آخره، ولم يتعدّ اثنين وستّين مصنّفا ولم يذكر أيّ مصنّف من المصنّفات ذات المنحى العملي، بينما لا نجد في ثبت القفطي سوى تسعة وستّين مؤلَّفا، يكاد يكون كلّ واحد منها مذكورا في القائمة الأخيرة الّتي أوردها ابن أبي أصيبعة في فهرسه.

ويمكننا إلى هذا الحدّ أن نتساءل: إذا سلّمنا بأنّ القائمة الثالثة التي أوردها ابن أبي أصيبعة في ترجمته لسيرة ابن الهيثم الرّياضيّ والمهندس لا تطرح مشكلاً حقيقيّا إلاّ فيما يتعلّق بشكوك رشدي راشد[26] حول نسبة بعض العناوين ذات الطابع العملي والتّربوي إلى هذا الفهرس، فلماذا نجد في هذه القائمة تشابها لعدد من العناوين الواردة في القائمتين الأوليين[27] مع القائمة الأخيرة التي يُفترض أنّها للحسن بن الهيثم؟ ولكن لماذا في المقابل ما يُقارب ثمانية وثمانين عملاً من أصل تسعين عملاً في القائمتين الأوليين لمحمد بن الهيثم قد اختفت تماما[28]، وظلّ العثور عليها أصعب من الظّفر بعنقاء مغرب؟

تكشف إفادة رشدي راشد الأولى أنّ ابن الهيثم لم يستهدف من مصنّفاته التي صنّفها، متابعة التّقليد الهلنيستي خاصّة فيما يتعلّق بالأعمال ذات المنحى العملي. وعن هذا الأمر أفاد راشد قائلاً: ˮإنّ تفحّص الفهارس الخاصّة بأعمال محمد، وتلك الخاصّة بأعمال الحسن، يُظهر فصلاً جيِّد الوضوح في الشّكل والمحتوى. إنّ لدينا بالفعل، من جهة، تسعين عنوانا لمؤلّفات محمد وهي تلك الواردة في الفهرسين، ومن جهة أخرى اثنين وتسعين عنواناً لمؤلّفات الحسن وهي الواردة في فهرس ابن أبي أصيبعة الذي أحصى أعماله حتّى سنة 1038م. وإذا قارنا بين عناوين محمد وعناوين الحسن لا نجد إلاّ كتابين مشتركين في هيئة العالَم وفي حساب المعاملات. ويثير هذان الكتابان مشاكل جدّيةً في انتقالهما وصحّتهما.“[29]

كما أنّ مصنّفات الحسن بن الهيثم —من وجهة نظر راشد— ˮتُبيّن بفضل عناوينها وبفضل محتوى الكتب التي وصلتنا، أنّ المؤلِّف لم يُساهم في المناظر وفي انتقاد الهيئة البطلميّة وفي الفلك فحسب، بل وأيضا في الرّياضيّات: الرّياضيّات الأرشيميديّة ونظريّات القطوع المخروطيّة وتطبيقها في البناء الهندسيّ ونظريّات الأعداد وبناء الأدوات الهندسيّة وأسس الرّياضيّات. غير أنّنا لا نعرف له أيّة دراسة في الطبّ أو في الفلسفة بالمعنى الهلنيستي إلاّ كتاباً صغيراً في الأخلاق. أمّا بالنّسبة إلى محمد فالأمر مختلف تماما، فهو فيلسوف وصاحب نظريات في الطبّ وعلى معرفة، ككثير من الفلاسفة الهلنستيين الإسلاميين —الكندي والفارابي وابن سينا— بالعلوم الرّياضيّة في عصره، وبخاصّة علم الفلك.“[30]

عن هذا الأمر يجيب صبرة قائلاً: ˮإنّ ضعف الحجّة الأخيرة واضح وبديهيّ، مع أنّها تبدو عماد كلّ الحجج الأخرى، إذ أنّها لم تشرح أو حتّى أنّها لم تطرح سؤال: لماذا لم يوجد إلى حدود كتابة ابن أبي أصيبعة مقالته حول سيرة ابن الهيثم سنة 1260م، من ارتاب في وجود باحثين يحملان اسم أبي علي بن الحسن بن الهيثم؟

بعد كلّ هذا، نحن نعلم من خلال القائمتين الأوليين، أنّ محمدا عاصر باحثي العراق وفارس الذين كتبوا في الفلسفة، والإلهيّات والفلك (1.14/1.22)، وكانت لهم في بغداد مناظرات في الرّياضيّات (1.15)، أضف إلى ذلك أنّه من المُؤكّد أنّ الرّياضيّين الّذين عاصروا الحسن، كانوا يعرفون بعضا من أعماله في الهندسة والمناظر على الأقل.“[31] وفعلا، قد يجوز أن يخطئ البعض في نسبة أعمال بعض العلماء إلى آخرين نظراً للاشتراك في الاسم أو طُغيان الاسم الأشهر على من هو أقلّ شهرة، أو في نسبة مؤلّف إلى أحدهم، وهذا معروف في التّاريخ بوجه عام، ولكن هل يجوز أن نخطئ بين عالمين ملآ الدنيا وشغلا النّاس في تحديد هويّة كلّ منهما؟ هل أنّ الكندي مثلاً الّذي كان مبرّزاً في علم الفلك والبصريّات والرّياضيّات[32]، لابدّ أن نقول إنّه غير الكندي الفيلسوف الّذي صنّف في الفلسفة وفي مختلف الصناعات والفنون استنادا إلى القانون المعروف ˮالقروض للأغنياء فقط“؟

يدعونا صبرة، إذن، إلى ضرورة الاحتراز من استسهال قبول مثل هذا التّخمين لأنّ الشّكوك التي طرحها السيّد راشد والحجج التي أوردها للفصل بين هويّة الحسن بن الحسن بن الهيثم ومحمد بن الحسن بن الهيثم بداعي الاختلاف في نهجيهما والمواضيع المطروحة للنّقاش في أعمال كلّ منهما، هي ˮاعتبارات غير مقنعة، وهي في الواقع اعتباطيّة نظرا لأنّها تفتقر إلى قاعدة صلبة في التّحليل المفصّل للأساليب والأفكار، إذ أنّه من الصعوبة بمكان أن نطلق مثل هذا الحكم بناءً على المواد المتاحة لنا.“[33]

وفي ردّه على شكوك راشد المتعلّقة بنسبة مقالة في حساب المعاملات، وأخرى في هيئة العالم إلى ابن الهيثم الرياضي والفيزيائي كانتا قد وردتا في الفهارس الثلاثة إلى جانب القائمتين الأوليين لترجمة ابن أبي أصيبعة، يفيدنا صبرة قائلاً: ˮعلى الرّغم من غلبة المواضيع الفلسفيّة، فإنّنا لا نشكّ في المجهود العلمي لهذه الأعمال،“[34] وتشابهها مع ما ورد في الفهارس الثلاثة، أي في القائمة الأخيرة التي أوردها ابن أبي أصيبعة والقائمة الثالثة في فهرست لاهور وثبت القفطي. وفي تقديره، لا يتعلّق المشكل، هاهنا، بعنوانيْن مُشتركين بين محمد والحسن، بل إنّ الأمر ربّما يعود إلى تصرّف[35] المترجمين الذين دوّنوا سيرته الذاتيّة وثبّتوا قائمة مؤلّفاته لصالح القائمة الأخيرة ˮلأنّ مُعظم ما وصل إلينا من مؤلّفات ابن الهيثم ومخطوطاته قد ورد في القائمة الثالثة“[36] دون القائمتين الأوليين المذكورتين في ترجمة ابن أبي أصيبعة ومخطوطة لاهور. وقد يتعدّى الأمر ذلك إلى عمليّة تنقيح ودمج واختزال للمؤلَّفات من النّاسخ نفسه في عناوين قصيرة مقارنة مع العناوين الواردة في القائمتين الأوليّين، حتّى تكون أكثر ملائمة للفهرسة.

 

وعن هذه القضيّة يميل عمّار الطالبي في إفادته إلى أنّ فهرست ابن الهيثم قد خضع للتّنقيح والتّهذيب والدّمج، وكمثال على هذا التّعاطي يحيلنا على كتاب صاحب المناظر في حلّ شكوك كتاب أقليدس في الأصول وشرح معانيه، فيقول: ˮلم يذكر ابن أبي أصيبعة هذا الكتاب في قوائمه الثلاث، وإنّما ذكر منه في القائمة الثالثة ثلاث مقالات: مقالة في حلّ شكّ في مجسمات كتاب أقليدس، قول في حلّ شكّ في المقالة الثانية عشرة من كتاب أقليدس، مقالة في حلّ شكوك المقالة الأولى من كتاب أقليدس، وذكره البغدادي بعنوان (مقالة في حلّ شكوك على أقليدس)، ولا يستغنى بهذه المقالات الثلاث عن الكتاب بجملته، إذ عالج في كتابه هذه المقالات الثلاث عشرة جميعا، وما فيها من الشّكوك، ولعلّه ألّفها مفردة، ثمّ دمجها في الكتاب عند تأليفه، فاستغنى به الناس عن المقالات المفردة.“[37] ومن الأدلّة البارزة على هذا الأمر، ذكر عمر الخيام للمقالة الأولى من كتاب ابن الهيثم، في حلّ شكوك كتاب أقليدس في الأصول وشرح معانيه، دون بقيّة المقالات، حيث أفاد في شهادة له أنّه: ˮقد شاهد كتابا لأبي على بن الهيثم رحمه الله موسوما بحلّ شكوك المقالة الأولى.“[38] وكذلك نقد ابن السري له في القضيّة الأولى من المقالة العاشرة من الأصول دون بقيّة المقالات الأخرى.[39]

ويُؤيّد صبرة هذه الفرضيّة بفرضيّة أخرى، فيقول: ˮحتى ولو سلّمنا بصحّة وجود اختلافات في المقاربات والأفكار والمذاهب بين الأعمال المتباعدة دون شكّ في الزّمن؟ لماذا ننكر على الكاتب إمكانيّة المراجعة والتّحقيق والتّنقيح، خصوصا وأنّنا نعرف من أقواله، أنّه لا يتردّد في التّخلّي عن آرائه السّابقة وعن طرق استدلاله إذا ما ثبت له فسادها وتهافتها؟“[40] ولكن، إذا صحّ بأنّ هوية ابن الهيثم تُثير مشكلا بيوغرافيا وتاريخيا، أي أنّها رهينة اكتشاف المخطوطات المفقودة وتحقيقها، فكيف لنا أن نميّز في سيرة صاحب المناظر بين مرحلة التحصيل ومرحلة الإبداع أو بصيغة أخرى بين ابن الهيثم المتبّع وابن الهيثم المبدع؟

 

ثانيا: ابن الهيثم بين التحصيل والإبداع

يقول ابن الهيثم في ديباجة كتاب المناظر: ˮوقد كنا ألّفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثير من مقاييسها طُرقا إقناعيّة، فلمّا توجهت لنا البراهين المحقّقة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب. فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنّها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.“[41]

ولنا في بعض مقالات ابن الهيثم ورسائله أيضا ما يُشير إلى الأهميّة التي أولاها لهذا الأمر—أمر التخريج والتنقيح والزيادة والتّحقيق—، وحسبنا أن نستحضر ديباجة مقالته في أصول المساحة، حيث يقول بلفظه:

ˮكنت قد ألّفت كتابا في أصول المساحة في أيّام الشبيبة، ثمّ عرضت العوارض من صروف الزمان أعدمتني كثيرا من أصول المصنّفات، وكان هذا الكتاب في جملة ما عدمته. ولمّا أتى على ذلك حين من الدّهر، سألني بعض من يحبّ العلوم ويميل إلى الفضائل أن أصنع له شيئا في المساحة، فاستأنفت هذا الكتاب إسعافا له، وهو يشتمل على أصول جميع ما يُستعمل من المساحات، إلاّ أنّي أشكّ أن في بعض ألفاظه وبراهينه ˃ما˂ قد يخالف بعض ألفاظ الكتاب الأوّل وبراهينه، ومع ذلك قد زدت فيه زيادات ليست في الكتاب الأوّل. فإنّ اجتمع لبعض النّاظرين في هذا العلم نسختان من هذا الكتاب مُختلفتا الألفاظ، فليعلم أنّ السبب هو ما ذُكر.“[42]

كما يعزّز هذا الأمر ما يُمكن أن يُستنبط ممّا جاء على لسانه في افتتاحيّة مقالته الموسومة بمقالة في هيئة حركات كلّ واحد من الكواكب السبعة، حيث يُعبّر عن ذات الاعتقاد أيضاً فيما يتعلّق بمراجعاته لمواقفه، وبخاصّة تلك التي ذكرها على الأصول المتعارفة، فيقول:

ˮوجميع ما ذكرناه في غير هذا الكتاب من ارتفاع الشّمس وارتفاعات الكواكب وارتفاع نصف النّهار ممّا لم نحرّر فيه هذه المعاني، فإنّما هو على طريقة جمهور أصحاب التّعاليم وعلى الأصول المتعارفة، ومع ذلك، فإنّ جميع ما ذكرناه من الارتفاعات على الطرق المتعارفة إنّما هو فيما صنّفناه من كتبنا قبل هذا الكتاب وقبل أن يظهر لنا هذا المعنى، ثمّ لمّا ظهر لنا هذا المعنى وتحرّر، ألّفنا هذا الكتاب ولخّصنا فيه هذه المعاني. ثمّ ˃من˂ نظر في هذا الكتاب وفي غيره من كُتبنا، فوجد فيما ذكرناه في الارتفاعات اختلافا، فليعلم أنّ علّته هي ما ذكرنا، وهو أنّ ما ذكرناه في هذا الكتاب من الارتفاعات للكواكب هو غاية التّحرير، وما ذكرناه في غيره من كتبنا التي ألّفناها قبل هذا الكتاب، فهو على المتعارف من طريقة أصحاب التّعاليم.“[43]

وبالفعل، حتّى وإن حدث وأخطأ ابن الهيثم في مكان ما، في معرض إقامة الدّليل على أمر ما، فإنّنا نراه على الدّوام مبقياً عيناً مفتوحة على أقواله وسُبل مراجعتها. ويعترف ابن الهيثم بهذا الأمر اعترافا لا غبار عليه، حيث نجده يقول في مستهلّ مؤلّفه مقالة مستقصاة في الأشكال الهلالية: ˮكان بعض إخواني سألني عن الشّكل الهلالي الّذي يُعمل على محيط الدائرة، فألّفت قولاً مُختصراً في الأشكال الهلاليّة بطرق جزئيّة لاستعجال صاحب السؤال لي ولاقتناعه بالجزئيّ في القول. ولمّا تمادى الزّمان من بعد ذلك عنّ لي فكر في هذا المعنى فاستخرجته بطرق علميّة، واستخرجت معه أيضا أنواعا من الأشكال الهلاليّة لم تكن في القول الأوّل، فرأيت أن أستأنف في هذه الأشكال مقالة استقصي الكلام فيها على هذا المعنى، فألّفت هذه المقالة وقدّمت فيها مقدّمات تستعمل في براهينها.“[44]

يتّضح حينئذ من بنية المراجعات، ظاهريّا على الأقلّ، أنّ مساهمة ابن الهيثم بما يعتمل فيها من نفس نقدي من مزاياها أن أبقت على روح الابداع والتّجديد، وفتحت الآفاق لجعل العقل يحاسب فيها ذاته على ما أتى، وهذا يعني أنّ هذه المراجعات هي أيضاً نهج للاستكشاف. ونحن واجدون في حرص ابن الهيثم على استعادة مثل هذا البيان المنهجي في ديباجات أغلب مقالاته ورسائله ما يرجّح فرضيّة صبرة القاضية بأنّ ابن الهيثم المبدع غير ابن الهيثم المتّبع.

وعليه، فلا عجب أن يؤدّي مثل هذا الإصلاح إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر يتسّم بطابعي النّقد والإبداع وذلك قبل أن يقوم ابن الهيثم بثورته في المناظر والفيزياء. ويبدو أنّ صاحب المناظر قد وصل في هذه المرحلة[45] إلى تطوير بحوث ذات سمة رياضيّة غلاّبة لم تعد معها الأسماء والأصول المتعارفة إلاّ مجرّد صورة باهتة.[46]

وتأسيسا على هذا الافتراض، إذا كانت النّقطة المفصليّة التي استند عليها رشدي راشد لتأمين الفصل بين محمد والحسن هو اختلافهما في الأسلوب وفي الاهتمامات، ولا سّيما اختلاف مرجعيّة كلّ منهما، فإنّ تفحّصا نقديّا لهذا الأمر سيبيّن لنا للتوّ مدى تطوّر فكر ابن الهيثم، وتأصّله في بيئته العربيّة النّابت فيها، فهو ولئن كرّس جهوده للبحوث العلميّة في آخر حياته، وبخاصّة للمناظر حين استقرّ أمره بالقاهرة، إلاّ أنّه يبدو ككثير من الفلاسفة الهلنستيين على معرفة بالعلوم الرّياضيّة والطبيّة والفلكيّة، ولا سّيما المسائل الكلاميّة والعقديّة.

كلّ هذا نجده عند ابن الهيثم، ونجده بعد ينفرد بأنّه، إذ يحاول وضع الاصطلاح، يعمد أحيانا إلى إحياء كلمات عربيّة قد أوشكت أن تسقط من الاستعمال، مثل كلمة ˮالاعتبار“ للدلالة على التّجريب، ثمّ يجمعها ˮاعتبارات“[47] للدلالة على التّجارب (expériences)، ثم يشتّق منها لفظ ˮالمُعتبر“[48] للدلالة على المُجرِّب (expérimentateur)، وفوق هذا يشتّق منها فعلاً: ˮاعتبر“[49]، بمعنى جرّب (expérimenter)، ويشتّق من الفعل مصدراً: ˮالاعتبار“[50] (expérimentation) في معنى الاستدلال، وقال عن الشيء المُطابق للحقيقة ˮالإثبات بالاعتبار“ تمييزاً له عن الإثبات بالقياس. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم توظيف ابن الهيثم مناهج الفقهاء والمتكلّمين، كمنهج ˮالسبر والاعتبار.“[51] ويلوح من هذه الإشارات أنّ مغرس هذه العبارات يُشير إلى أنّ صاحب المناظر لم يستنكف من دراسة ما كان متوافرا عند الفقهاء والمتكلّمين وأنّه فعلاً قد خاض في مسائلهم وقضاياهم[52].

كما يهمّنا أن نسجّل في هذا المقام، أنّه كلّما تعلّق الأمر بصناعة الطبّ، فإنّ ابن الهيثم لا يتردّد في إحالتنا على ما تشهد به كتب أهل هذه الصناعة؛ ولعلّ في ذلك دليل على أنّ الرّجل لم يُباشر هذه الصناعة ولم تكن له دُربة بالمُداواة، وهذا ينسجم مع ما ذهب إليه صاحب الطّبقات في ترجمته لسيرة ابن الهيثم حينما وصف ابن الهيثم عالما ˮمتفنّنا في العلوم لم يُماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرّياضي، ولا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال كثير التّصنيف وافر التزهّد محبّاً للخير. وقد لخصّ كثيراً من كتب أرسطوطاليس وشرحها، وكذلك لخصّ كثيرا من كتب جالينوس في الطبّ، وكان خبيرا بأصول صناعة الطبّ وقوانينها وأمورها الكلّيّة، إلاّ أنّه لم يُباشر أعمالها، ولم تكن له دُربة بالمداواة.“[53]

من كلّ هذا، يمكن أن نخلص إلى القول، إنّ ابن الهيثم يبدو لنا نتاجا تامّا لعصره، موصولا وصلا صميماً به، إذ أنّنا نجد في ذلك العصر عناصر تُفسّر مفاعِل فكره، ونجد في عقيدته الفلسفيّة وعقلانيته العلميّة شأناً ناتجاً عن هذا العصر، محكوماً به، ومدخلاً للتّعبير عن مشاكل أهل الفكر والنّظر، ولكن الخصوبة الفكريّة الحقيقيّة لا تكون إلاّ بقدر ما يكون التّلاقح بين تلك المكوّنات أمرا مُمكنا. ولهذا، فكلّ بناء، حسب ابن الهيثم، يتهيأ للشّكّ والسّؤال، وهو قابل للتّهذيب والتّشذيب وإعادة السّبك.

أمّا بالنّسبة إلى الاعتراض الثاني فإنّ رشدي راشد اعتبر أنّ الخلط الّذي تورّط فيه ابن أبي أصيبعة متأتّ من ˮأنّ كلّ الكتب والرّسائل المنسوبة إلى الحسن مكرّسة للبحث: فهو يحلّ فيها المسائل العلميّة الّتي يطرحها بنفسه أو الّتي يطرحها أحد أسلافه. وهو حتّى عندما يشرح كتب الأقدمين، فإنّه يهدف إلى تبيين الصعوبات الّتي لاقاها وإلى تقديم حلول جديدة لها. ويكفي للاقتناع بذلك أن نقرأ شرح مصادرات أقليدس أو حلّ شكوك كتاب أقليدس في الأصول أو الشكوك على بطلميوس.“[54]

ولمزيد إيضاح فكرته يضيف راشد قائلاً: ˮلنلاحظ من جهة أخرى، أنّه لم يُحرِّر ملخّصات مخصَّصة لتسهيل فهم الطلاّب للكتب القديمة والحديثة، باستثناء مقال في الضّوء الذي يُلخِّص فيه الأفكار الهامّة الواردة في كتاب المناظر.“[55]

وفي ردّه على هذا الاعتراض، يحيلنا صبرة على ترجمة كل من ابن أبي أصيبعة والقفطي معتبرا أنّهما ينطويان على صِيغ صريحة من شأنها أن تُخوّل الحديث عن البعد التّعليمي في أعمال صاب المناظر ˮكما هو واضح من خلال العناوين المدرجة في فهرست ابن أبي أصيبعة، وهي على التّوالي (88) مقالة في الأخلاق (89) مقالة في آداب الكتاب و(90) كتاب في السياسة من خمس مقالات إضافة إلى مقالة منسوبة للحسن بعنوان (في ثمرة الحكمة)“[56] لم تذكرها الفهارس المعروفة.[57] وأمّا نسبة هذه المقالة إلى ابن الهيثم أمر لا شكّ فيه، ومّما يؤكّد هذا الأمر، هو إحالته فيها على كتابه في شرح مصادرات كتاب أقليدس، ويكفي هنا أن نورد قوله: ˮ… وجميع ما شرحناه من قبل من أحوال الأشكال، وشرح في صدور مقالات أقليدس.“[58]

ويحتمل الطالبي أن تكون هذه الرّسالة تحمل العنوان التّالي: في المدخل إلى الأمور الهندسيّة في الفهارس المعروفة على ما يذهب إلى ذلك فؤاد سزكين، لأنّها فعلاً مدخل إلى العلوم الهندسيّة. ويؤيّد الطالبي ما ذهب إليه بالقول: ˮإنّ ابن الهيثم ذكر في هذه المقالة ما يشير إلى ذلك حيث بيّن طبيعة عمله في المقالة بقوله: ˮوإذا ذكرت هذا فإنّي أتبع ذلك بما يكون مبدأ ومدخلا إلى الصناعة الهندسية.“[59]

ولنا في مقالة ابن الهيثم في كيفيّة الأرصاد[60] أيضاً ما يُشير إلى أنّ الرّجل لم يستنكف من كتابة الرّسائل المُكرّسة للتّعليم والارتياض بالأصول والمبادئ، خاصّة أنّها اتّسمت بطابع العرض وسلكت طريق الشّرح الّذي به أدرك النّاظرون في علم الهيئة جميع ما أدركوه من كيفيات الحركات السماويّة وهيئات أفلاكها وأنواع اختلافاتها. وكثيراً ما نجد ابن الهيثم يعمد إلى الوقوف على حدود الأشياء ليسميها بأسمائها ويوضّحها في معانيها على غير عادته في مؤلّفات النّضج والإبداع؛ ولعلّ هذا ما يُفسّر الطابع التعليميّ التي اتّسمت به كتابات الشّرح والتّحصيل الّذي يلوح مختلفاً في مرحلة النّضج بعد أن استوى له المذهب على قواعد راسخة، فراح يعرضه في إيجاز مُحكم دقيق. وعن هذه القضيّة يُفيدنا عبد الحميد صبرة في معرض تحقيقه وتعليقه على هذه المقالة، بالقول: ˮولا شكّ أنّ المقالة موجّهة إلى ’المتعلّمين‘ دون المتخصّصين أو ’المحقّقين‘، وقد كان من عادة المؤلّفين في عصر ابن الهيثم (بما في ذلك كبارهم) أن يوجهوا كتاباتهم إلى هاتين الفئتين من الباحثين بما يُناسب درجاتهم في التّحصيل. والمقالة، إذن، ذات أهميّة خاصة لما تلقيه من ضوء على مناهج الدّراسة العلميّة في العصر الوسيط، فضلاً عن فائدتها في التّعريف بأصول فلك بطلميوس.“[61] ورغم إعراض المؤلَّف على غير عادته عن المعالجة الرّياضيّة، فإنّ هذه المقالة تُمثّل ˮمدخلاً قيّما إلى الفلك البطلمي يتّسم بالوضوح والتّرتيب والدّقّة.“[62]

بالإضافة إلى ذلك، يميل صبرة إلى اعتبار مقالة ابن الهيثم في التّحليل والتّركيب الواردة في كلّ الفهارس المعروفة[63] تؤشّر على هذا التّوجّه التّعليميّ[64]، وهو توجّه كان قد أكّد عليه خليل جاويش في لحظة سابقة، بمناسبة بحثه عن معنى التّحليل والتّركيب في القول الهيثمي، حيث أفاد قائلاً: ˮفبالإضافة إلى هدفه التّعليمي فهو يكتسي صبغة نظرية.“[65] وبهذا النّحو، نرفع حالة الاستثناء التي فرضها رشدي راشد على أعمال صاحب المناظر، والتي اختزلها في إثارة الشّكوك على كبار العلماء وتقديم البدائل.

وإن نحن وضعنا ابن الهيثم في هذا المناخ العقلي، فبإمكاننا القول إنّ علاقة ابن الهيثم المحصل أو المربي بابن الهيثم المبدع ليست علاقة سلبيّة، بل هي علاقة استحضار للاّمفكر فيه عند صاحب المناظر. ولأنّها مثابرة إنسانيّة، فهي مشروطة بظروف زمانها ومكانها، من حيث هي لا تُفهم إلاّ داخل جغرافيّة المشاكل التي كانت مثار نقاش آنذاك. ولأمر كهذا، يبدو أنّ ابن الهيثم كان عنده من أنواع الاهتمام ومن الغايات في التّأليف ما كان عندهم، أي أنّ ما صنّفه خلال هذه الفترة قد ارتبط أساسا بما اقتضاه واقع العلوم وواقع الفكر في عصره، وما كان يعتمل في عقول العلماء والفقهاء والمتكلّمين من مشاكل كلاميّة وغيرها من المشاكل التي كانت مادّةً لمناظرات في مسائل عقديّة وفلسفيّة وما اتّصل بمشكلاتهما.

وبهذا التقدير، قد يكون من المرجّح أن يكون ابن الهيثم اهتمّ في هذه المرحلة الأولى من حياته بـالشّرح والتّلخيص فضلاً عن عنايته بالمؤلّفات ذات المنحى التّطبيقي كمقالته في استخراج سمت القبلة ومقالة فيما تدعو إليه حاجة الأمور الشرعيّة من الأمور الهندسيّة، ومقالة في استخراج ما بين البلدين من البعد من جهة الأمور الهندسيّة، ومقالة أخرى في عمليات الحفر والبناء بجميع الأشكال الهندسيّة، وهذا كلّه حينما كان بـالبصرة، أين تفتّح عقله على صراع المدارس الفكريّة والكلاميّة من حوله[66]. ولكن يبدو أنّه أفرغ وسعه فيما بعد للبحوث ذات الطّابع العلميّ المحض، وذلك حينما استقرّ أمره بـالقاهرة استجابةً لدعوة الحاكم بأمر الله الفاطمي له للنّظر في أمر مجرى مياه النيل وفيضانه. ففيها ظهر كتابه المناظر، وأتمّ أكبر أعماله العلميّة قيمة، وأخطرها شأناً في علم الضّوء. وربّما يكون هذا من بين الأسباب الّتي جعلته يقتصر في القائمة الثالثة (الفهرست) على تدوين الأعمال ذات الطّابع العلميّ دون أعماله الأخرى حتّى يُبعد عنه شكوك رجال الدين والسياسة.

وهذا يدلّ من جديد على أنّ البيئة الثقافيّة، كان لها الأثر في عمليّة تحفيز العقل (أو على العكس الحدّ من مثابرته ولجمه) للعمل في مناطق محدّدة، أو السّعي إلى تحريره، وحثّه على الاشتغال في مناطق جديدة. وفعلاً، فلقد عرف صاحب المناظر المحنة والامتحان الّذي عانته علوم الحكمة على وجه العموم في الفترة الّتي عاش فيها والفترة القريبة من عصره أين كانت المؤسّسة السياسيّة تتحرّك بكلّ ما توافر لها من فرص لمحاربة الدّرسين الفلسفيّ والعلميّ وتحريك الحشود البريئة ضدّ العلماء والفلاسفة، ومعاقبة من يعلّمهما سرّا وعلانية. ويكفي، هاهنا، أن نورد شهادة القفطي في ترجمته لسيرة ابن الهيثم، حيث يُخبرنا هذا الأخير على لسان الحكيم السبتي الإسرائيلي أحد تلاميذ الفيلسوف الإسرائيلي ابن ميمون أنّه كان بـبغداد تاجرا، أيام الدّولة الإماميّة النّاصريّة حين أُحرقت كتب عبد السلام بن عبد القادر أبي صالح الجيليّ البغدادي المعروف بـالرّكن بعد أن اتهم بأنّه معطّل، وأنّه يرجع إلى أقوال الفلاسفة في قواعد هذا الشّأن، وعن هذه القضيّة أفاد القفطي قائلاً: ˮأخبرني الحكيم السبتي الإسرائيلي، قال: كنت ببغداد يومئذ، تاجرا فحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانيّة وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم وهو يشير إلى الدّائرة الّتي مثّل بها الفلك وهو يقول: وهذه الداهية الدهياء والنّازلة الصمّاء والمصيبة العمياء، وبعد تمام كلامه خرقها وألقاها في النار، قال: فاستدللت على جهله وتعصّبه إذ لم يكن في الهيئة كفر وإنّما هي طريق إلى الإيمان ومعرفة قدرة الله جلّ وعزّ فيما أحكمه ودبّره، واستمرّ الرّكن عبد السلام في السجن معاقبة على ذلك إلى أن أخرج منه في يوم السبت رابع عشر ربيع الأوّل سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأعيد عليه ما كان له بعد الذي ذهب وعاش بعد ذلك عمرا طويلا.“[67]

 

خاتمة

إجمالا، يمكننا القول إنّ سؤالا من قبيل: هل أنّ ابن الهيثم واحدٌ أم اثنان؟ لئن بدا سؤالا مشروعا ومُبرَّرا، إلاّ أنّه يبقى سؤالا بلا فائدة ما لم نميّز أيضا في سيرة عالِم البّصريّات بين مرحلة الشّرح والتّلخيص والتّحصيل من ناحية، وبين مرحلة الخلق والإبداع من ناحية أخرى. أو قل ما لم نُميّز بين أقواله التي تجري مجرى الإيضاح والإفصاح[68] على الأصول المتعارف عليها وأقواله الدّالة على التّحقيق؛ أو بعبارة أخرى بين أقواله الدّالة على الشّرح والتّلخيص والاختصار[69] كما يقول بلفظه وأقواله الدّالة على النّظر والاعتبار. وفي مثل هذا التّصوّر وعبره، قد يجوز لنا القول إن كتابات ابن الهيثم الشّاب المتّبع ليست هي ذاتها كتابات ابن الهيثم العالم الفيلسوف. ولذلك، فإنّ العنوان الذي اخترناه لهذا البحث إذ يضعنا أمام إشكاليّة تاريخيّة وبيوغرافية، فإنّه ينطوي في صميمه على إشكاليّة ذات طابع فلسفي وابستيمولوجي وهي إشكاليّة العلاقة بين الفلسفة والعلم من ناحية وبين النّظر والعمل من ناحيّة أخرى. وعلى أيّة حال، مهما تكن القيمة التي يمكن نسبتها إلى هذه الشكوك والشهادات المتأخرّة، فإنّها تبقى مع ذلك غير كافية، إذ تبقى إعادة البناء بعيدة عن النّفاذ إلى صميم القول الهيثمي واستنطاق مسلّماته واستنفاذ مُمكناته ما لم ننفض الغبار عن الأفكار والقيم المعرفيّة التي وجّهت ابن الهيثم في رحلته في مراحلها المختلفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى