الفلسفة الإسلامية

في مقاربة فلسفة الفعل عند الفخر الرازي

مراجعة نقدية لمقالة ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين“

الفقير، شعيب

ملخص: تحاول هذه المقالة أن تتفاعل نقديا مع مقالة الدارس محمد عبيدة، المعنونة بـ ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين وتطبيقاتهما في مبحث النبوات: الفخر الرازي أنموذجا،“ للوقوف على بعض جوانب القصور التي تعتري الدراسات الأكاديمية في مجال علم الكلام، والتي لم تسلم منها مقالة عبيدة. ويتعلق الأمر بالاستيعاب الجيد لمضمون الحجج والمقولات الكلامية وأغراضها، وحسن عرضها بعيدا عن أي غموض أو تشويش ممكن، وبحسن التعامل مع نصوص بعض الشخصيات الجدلية، مثل المتكلم الشهير فخر الدين الرازي (ت. 606هـ/1260م). تبين هذه المقالة آراء الرازي النهائية في قضية خلق الأفعال، أوحرية الإرادة بالتعبير المعاصر، وتزعم أن مقالة الدارس عبيدة لم تحسن تقديمها كما هي

مقدمة

إن القضية المطروحة في فلسفة الفعل، كما يستعملها الباحث هنا، قريبة من قضية خلق الأفعال عند المتكلمين، إن لم تكن هي نفسها.[2] والذي قرره الباحث فيها، وهو يعرض لرؤية الرازي بهذا الخصوص، أنها رؤية قائمة على نظرية الاختيار العقلاني المُضادة للجبر والحتمية، مشبّها إياها بقصدية إدموند هوسرل (Edmond Husserl, d. 1938). فالأفعال في تصور الرازي ناتجة عن اعتقادات وقصود وإرادات، شاملة للفعل والترك معا. كما أنها أفعال مراعية للشروط والموانع المصاحبة للأفعال عادة، وفي حالة التعارض يقع الترجيح والموازنة بينها بمعايير معينة.[3] كل ذلك يجعل الإنسان، حسب التعبير الكلامي الشائع، خالقاً/موجداً لأفعاله. كما أن القصدية تشمل جميع الحالات الذهنية للإنسان، وتشمل العلم بجميع حيثيات الفعل المقصود من اعتقاد وإرادة ومخاوف وآمال وغيرها، كما تعني التوجه نحو الأشياء.[4] وفي هذه الحالة الأخيرة لاحظ عبيدة التشابه بين قصدية هوسرل ومقررات المتكلمين مثل الرازي. ويقصد بهذا مفهوم ”التعلق“ و”النسبة“ و”الإضافة“،[5] التي تستعمل في الصفات وتكون كلها مضافة إلى الموصوف ومتعلقة به ومتوجهة نحوه بتعبيره.

لكن الغالب على المتكلمين المتقدمين إلى حدود زمن الرازي – قبل التأثر بطريقة المتأخرين من المتكلمين الذين خلطوا الكلام بقضايا الفلسفة، تبعا للرازي[6] – استعمالهم لهذه المفاهيم التي أوردها الباحث عند حديثهم عن الصفات الإلهية، ولا علاقة لها بما أراد الباحث إثباته.

ثم يصوغ الباحث تصورا عن رؤية الرازي قريبا من تصور عالم الاجتماع ماكس ڤيبر (Max Weber, d. 1920) في نظريته عن الفعل الاجتماعي،[7] التي اتسمت بالغائية والقصدية (المرادفة لحرية الإرادة)، وهو تصور له أساس شبيه بـ”القصدية الفينومينولوجيا“ التي وضعها هوسرل.[8] يضع الباحث هذه الرؤية المنسوبة إلى الرازي في مقابل رؤية أخرى – في نفس سياق خلق الأفعال – تجعل الانسان خاضعا لحتميات وقوى خفية، كالظروف الاجتماعية،[9] يكون بمقتضاها مسلوب الإرادة. والداعي له لعقد هذه القراءة لتصور الرازي، في ضوء تصور هوسرل للقصدية، هو وجود أساس مشترك بينهما قائم على التسليم بالمعطيات التالية: أولا، أن هذه القصدية ترجع في أصولها إلى أرسطو (ت. 322 ق. م.). ثانيا، أن هذه الفلسفة الأرسطية تبنّاها كل من الفيلسوف الألماني فرانز برينتانو[10] (Franz Brentano, d. 1917)، وأبي علي ابن سينا (ت. 427هـ/1037م). ثالثا، أن هوسرل تأثر في نظريته هذه بـفرانز برينتانو. رابعا، أن الرازي كانت له عناية بفلسفة ابن سينا وتأثرٌ واضح بها.

وقد بنى عبيدة على هذه المعطيات ليبرر القراءة التقاربية بين الرازي وڤيبر، إلا أن هذه المعطيات مُعترض عليها من وجهين:

الأول هو أن الباحث لم يدلل على هذه السلسلة من التأثر بين الأعلام المذكورين، بل إنه أرسل هذه الدعوى إرسالا.

والوجه الثاني للاعتراض أن اشتهار التأثر بين عَلَمين في جوانب من فكرهما، كما تنقل ذلك بعض المصادر، أو كما يلحظه الباحث بنفسه، لا يكون مبررا للقول بأن التأثر كان شاملا وعاما بينهما، وإلا فأين وجد الدارس – مثلا  – أن الرازي قد تأثر بابن سينا في قضية خلق الأفعال؟

أولا: الخلط بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي

يناقش عادة موضوع حرية الإرادة في التقاليد الكلامية الإسلامية ضمن مبحثي الصفات الإلهية والأفعال البشرية. وإن كانت العلاقة بين المبحثين وثيقة، إلا أن القول فيهما ليس واحدا؛ لذا فإن الخلط بين المبحثين ينتج عنه سوء فهم لموقف المتكلمين والفلاسفة بخصوص حرية الإرادة البشرية أو ”فلسفة الفعل،“ كما يسميها صاحب المقال. وهذا الخلط لم يسلم منه الدارس نفسه. فلكي يدلل على أن ”الرازي يتحدث عن الفعل الإنساني في عالم العيش، عالم الأشياء،“[11] بمعنى أن رؤية الرازي تتعلق بمجال الفعل البشري لا بمجال الفعل الإلهي، يقتبس نصا من أحد أعماله، يقول فيه:

يقول الرازي:

إنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول: الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة، وهي مثل العلم والقدرة، فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور، فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات. أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة.[12]

إن الرازي، كما هو واضح في هذا النص، يؤكد على الفرق بين الصفة التي يلزم عنها التعلق، وبين الصفة العارية عن ذلك التعلق، وكلا الصنفين خاص بالذات الإلهية وأفعالها، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالفعل الإنساني. ولذلك لا يبدو واضحا كيف فهم الباحث أن النص مثبت لدعواه. هذا، مع أنه نقل تأكيد الرازي على أن تعلق الصفات بالله تعالى وحده، فيصير تأكيده على أن كلامه يتعلق حصرا بالفعل الإنساني سوء فهم مضاعف، وشاهدا قويا على الخلط بين مبحثي الفعل الإلهي والبشري، فضلا عن أنه لا يخدم البتّة إشكالية مقاله.

ثانيا: الخلط بين آراء الرازي ونقولاته

تشكلت أعمال الرازي بطريقة تضمنت آراءه وحججه، إضافة إلى آراء وحجج غيره من النظار المتكلمين، إما بنقلها من أعمالهم، أو بإعمال نظره في تقريرها إذا لم يجد ما يشفي غليله منها، وهو ما يستدعي الحذر عند التعامل مع أعماله، وتمييز النصوص التي تعبر عن حقيقة موقفه، وتلك التي تعبر عن موقف نظّار آخرين. ولتقديم نموذج بارز لهذا الخلط، فإن صاحب المقال، عند تقديمه مفهوم الفعل عند الرازي، ينقل نصا طويلا يوضح كيفية وقوع الفعل الإنساني وشروطه. جاء في جزء منه:

ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجية، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم، أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.[13]

وعند فحص هذا الاقتباس الذي قدمه الدارس عبيدة للقارئ دليلاً على تبني الرازي لحرية الإرادة، نجد أن الرازي قد كان بصدد تحقيق الكلام في وسوسة الشيطان من وجهة نظر أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ/1111م) في الإحياء،[14] مما يصعب معه المجازفة بأن ما أثبته الرازي كان مذهبه، ويؤكد الخلط البين بين أقوال الرازي ونقولاته. فضلا عن ذلك، فقد عمد الباحث إلى اجتزاء النص من سياقه، ولم ينقله نقلا أمينا، إذ حذف من اقتباسه ما يؤيد فكرة نفي الاختيار ونسبة خالقية الأفعال لله تعالى دون الإنسان، وذلك حتى يثبت دعواه حول تصور الرازي العقلاني المناصر للاختيار. على أن هذا النص الطويل الذي يستشهد به على طريقة وقوع الفعل عن الحيوان، حتى وإن جاء فيه تفصيل تلك الطريقة خطوة بخطوة، إلا أنه في آخره يَرُدُّ كل ذلك إلى سببه الحقيقي، وهو الله تعالى الذي خلق كل تلك الخطوات، وليس للإنسان دخل فيها.

ثالثا: غموض في عرض الحجة الكلامية للرازي

يقول الباحث: ”ثمة أمر مهم يلحظه الناظر في الكتب الكلامية، وهو الاستدلال على طبيعة القرآن الإلهية انطلاقا من تحليل أفعال أفراد المجتمع الذي ظهر فيه الوحي، ودواعيهم ودوافعهم إلى تلك الأفعال.“[15] بيد أن الباحث ترك دعواه مرسلة، وانتقل إلى الحديث عن تأسيس تصور الفعل الاجتماعي عند المتكلمين وكيفية تفسيرهم له، ولمّا يدلل بعدُ على دعوى استدلال المتكلمين على طبيعة القرآن الإلهية منطلقين من تحليل أفعال أفراد المجتمع الذي نزل فيه الوحي.

وفي الواقع، يصعب على القارئ أن يفهم كيفية هذا الاستدلال الكلامي الذي يتحدث عنه، سيما وأن الباحث لم يوضح ما يقصده حتى يفهم عنه. وعليه، فكيف له أن يؤسس عبر هذه الدعوى تصورا خاصا بالمتكلمين في المسألة دون دليل، ثم ينتقل مباشرة إلى تخصيص هذا الأمر بالرازي وحده فيعتبر أن تصوره حولها قائم على ”نظرية الاختيار العقلاني،“ وهي الدعوى التي أشرت إليها أعلاه؟

ومما سبق يظهر لنا كيف يحاول محمد عبيدة الاستدلال على دعواه حول فلسفة الفعل عند الفخر الرازي من خلال عدد من النصوص التي استشهد بها، فيما تبين أن تلك النصوص لا تتعلق لا من قريب ولا من بعيد بالقضية التي هو بصدد إثباتها، بل إنها، أحيانا، تنقلب على صاحبها، وتثبت نقيض دعواه كما رأينا. كما أن الطريقة التي حاول من خلالها معالجة القضية لم تكن موفقة، لذلك وصل إلى ما رأيناه أعلاه.

رابعا: حقيقة موقف الرازي من حرية الإرادة

إن قضية خلق الأفعال في علم الكلام قضية معقدة، ومقاربتها كما رأينا عند الباحث محفوفة بعدد من الصعوبات. كما أنه وقع تاريخيا اختلاف كبير في تفسيرها، حتى بين أبناء المدرسة الواحدة، كما هو الأمر عند الأشعرية. بل إن الأمر يزداد تعقيدا مع فخر الدين الرازي الذي تعددت آراؤه في هذه القضية، فتضاربت بذلك الآراء حوله. فهناك من عده من القائلين بالجبرية، كما فعل ابن تيمية (ت. 728هـ/1328م)[16] وكما تفيده بعض نصوصه كما سيأتي، وهناك من من يقول إنه يثبت قدرةً للإنسان على إتيان أفعاله اختيارا وإنه ناقد للجبرية، كما نسبته إلى ذلك ليڤنات هولتزمان.[17]

فمما قد يبنى عليه في نسبة الرازي إلى الجبرية قوله في كتابه الأربعين: ”فإن كان حال كونه [العبد] مصدرا للفعل، لا يصح منه الترك، وحال كونه مصدرا للترك، لا يصح منه الفعل.“[18] والنتيجة التي أفضت إليها هذه المقدمة هي أن ”العبد غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك؛“ أي أن الإنسان ليست له القدرة على أن يفعل أو يترك من تلقاء نفسه، بل إنه مُسير في ذلك. ولما كان الأمر كذلك، علّق الرازي على الأمر بأنه ”هو المطلوب“ إثباتُه في هذه المسألة، وهو الأمر الذي ينصره.[19] وهذا بحث مسبوق بإثبات قاعدة مفادها: أن مجموع القدرة مع الداعية المعينة مستلزم لحصول الفعل، الأمر الذي ينفي عنه القدرة على الترك في نفس الزمن، والذي لا يقدر على الفعل والترك في نفس الزمن، يصبح مُجبرا على فعل أحد الفعلين دون الآخر. وهذه القاعدة التي احتج بها على إثبات الجبر انتزعها من المعتزلة انتزاعا، وخاصة من أبي الحسين البصري (ت. 436هـ/1044م)، الذي استدل بها على الاختيار وأن الإنسان مستقل بإيجاد أفعاله.

ثم إنه بعد مجموعة من المقدمات ونتائجها، يخلص إلى القول بأن ”العبد حال كونه مصدرا للفعل يمتنع منه الترك، وحال كونه مصدرا للترك يمتنع منه الفعل.“[20] فهذه الخلاصة، كما ذكر، تقتضي الجبر.

ثم إن صدور أفعال الإنسان الناتجة عن اعتقادات وإرادات… الخ، التي ذكرها الدارس عبيدة، قريب من التصور الكلامي في مسألة خلق الأفعال، وخاصة في جزئية علم العبد بتفاصيل أفعاله، هل هو عالم بها أم لا. فهل يقول الرازي – كما قرر الباحث – بأن العبد عالم بها، أم لا؟

قبل الوقوف عند كلام الرازي في هذه المسألة، لا بد من التنبيه على أن هذه الجزئية متفرعة عن المسألة الأم، أي خلق الأفعال، فتأخذ حكمها، ويطرد الحكم في جميع أفراد المسألة؛ فالذي يخلق أفعاله بالضرورة يكون عالما بتفاصيلها، والعكس بالعكس. وبالوقوف على نص الرازي في المسألة نجد أنه قد طَرَدَ مذهبه فيها، إذ يقول بنوع من الاستدلال بقياس شرطي متصل: ”لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيل أفعاله. وهو غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه، فوجب أن لا يكون موجدا لها.“[21]

هذا الذي أكده الرازي حَدَا ببعض الدارسين إلى الحكم بأن هذا الموقف غير مسبوق في علم الكلام السني.[22] بيد أنه في كتاباته المتأخرة—خصوصا في تفسيره، وهو يستعرض حجج القائلين بالاختيار من المعتزلة، خاصة الحجج التي استمدت من القرآن الكريم، ومن المقصد العام من النبوة، مما ينبئُ بخفوت الحدة الكلامية في التعامل مع الخصوم—نجده يخلص إلى أن المسألة قد وقعت في حيز التعارض، وأن الأدلة من الجانبين قد تكافأت دون الحكم لأي من الجانبين بأنه هو الصواب؛ مما قد يجعل الباحث متوقفا في الحكم عن المسألة كما توقف فيها آخرون،[23] بل وكما توقف فيها الرازي نفسه في نص له متأخر بنى عليه المتوقفون.[24] وسقوط دلالة أي الجانبين المتكافئين متخرج عما قرره الرازي في الملخص في المنطق بأنه إذا ”تكافأت الكفتان ولم يتبين الربح من الخسران، بل رجع طرف الذهن عن إدراكه حسيرا تركناه في حيز التعارض أسيرا.“[25] ولأن ذهنه في حدود تقريره هذا، لم يدرك هذه المسألة والحقَ فيها، نراه يفوض أمرها إلى الله تعالى حين قال: ”فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير.“[26]

هل يعني هذا أن المسألة بقيت أسيرة في حيز التعارض، وأن الرازي لم يحسم الأمر فيها؟ قطعا، لا؛ فقد حاول الرازي أن يظفر بما يرفع أسر التعارض عن المسألة. والمثير للغرابة أنه وجدها في ذات المقدمة التي تنازعها أصحاب الموقفيْن معا وهم يحتجون لمذهبهم، أعني أصحاب القول بالجبر وأصحاب القول بالاختيار. تلكم المقدمة هي أن مجموع القدرة مع الداعية المعينة مستلزم لحصول الفعل.[27] فبناءً عليها، ذهب الرازي إلى الجمع بين القول الذي يبدو متعارضا[28] بأن الكل بقضاء الله وقدره، وأن مجموع القدرة والداعية مستلزم لوقوع الفعل ومؤثر فيه، فيكون إضافة الفعل وإسناده للإنسان صحيحا، كما يصح أن الكل بقضاء الله وقدره؛ وهذا نصه:

مجموع القدرة مع الداعي مؤثر في الفعل، وخالق ذلك المجموع هو الله تعالى ولكون هذا المجموع مستلزما لحصول الفعل، صحت هذه الإضافات والإسنادات. ولكون ذلك موجبا لوقوع هذه الأفعال، صح أن الكل بقضاء الله وبقدره.[29]

وهكذا يزول التناقض بين الدلائل العقلية، والدلائل القرآنية. وقد تكرر هذا الجمع بين القول بأن الكل بقضاء الله وقدره، وبين إسناد الفعل إلى الإنسان في مواضع من التفسير الكبير، إذ يقول: ”والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله.“[30]

خاتمة

بعد أن استعرضت موقف الباحث محمد عبيدة حول فلسفة الفعل عند الفخر الرازي، بينت أنه لم يُوفق في عرض موقف الرازي وفي توظيف نصوصه حول المسألة. وقد أظهرت مواطن غموضه في عرض الحجة الكلامية للرازي، وعدم تمييزه بين آراء الرازي ونقولاته، بل وخلطه بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي. بعد كل هذا انتقلت إلى تقويم ما قرره، ونبهت في الختام إلى أن الاعتماد على نص وحيد من نصوص متعددة حول مسألة واحدة يوقع في محاذير كثيرة، منها تقديم صورة مشوهة حول موقف عَلَمٍ وصل البحث في تراثه—عالميا—إلى حدود متقدمة وبعيدة جدا، وتراكمت مادة معرفية حوله. إن تقديم تصور الرازي حول فلسفة الفعل، كما تعرضه مجموع أعماله، يقتضي من الدارس أن يتتبع آراءه التي تقلّب فيها وغيّر وجهات نظره حولها؛ فقد رأينا كيف كان جبريا محضا في البداية، ثم أصبح بفعل تكافؤ الأدلة متوقفا في الأمر، دون إبداء رأيه، هذا قبل أن ينتهي إلى الجمع بين القول بإسناد الفعل إلى الإنسان، وبين القول بأن هذا الفعل واقع بقضاء الله وقدره، دونما شعور بأي تناقض بينهما.

 

Bibliography

al-Rāzī, Fakhr al-Dīn. al-Maṭālib al-ʿāliyah min al-ʿilm al-ilāhī, edited by Aḥmad Ḥijāzī al-Saqā. Beirut: Dār al-Kitāb al-ʿArabī, 1407H/1987CE.

___. al-Mulakhkhaṣ fī al-manṭiq wa-l-ḥikmah, edited by Ismāʿīl Khān Ughlū. Amman: Dār al-Aṣlayn li-l-Dirāsāt wa-l-Nashr, 2021.

___. Tafsīr al-Rāzī al-mushtahir bi-l-tafsīr al-kabīr wa-mafātīḥ al-ghayb, edited by Khalīl Muḥyī al-Dīn al-Mays. Beirut: Dār al-Fikr, 1415H/1995CE.

___. al-Arbaʿīn fī uṣūl al-dīn, edited by Aḥmad Ḥijāzī al-Saqā. Cairo: Maktabat al-Kulliyyāt al-Azhariyyah, n.d.

al-Ṣādqī, Muḥammad. “Naqd taṣawwur al-mutakallimīn wa-l-mashashāʾīn li-l-zamān ʿinda Fakhr al-Dīn al-Rāzī.” Majallat Tabayyun 8, no. 32 (Spring 2020): 7-29.

Holtzman, Livnat. “Debating the Doctrine of Jabr (Compulsion) Ibn Qayyim alJawziyya Reads Fakhr al-Dīn al-Rāzī.” In Islamic Theology, Philosophy and Law: Debating Ibn Taymiyya and Ibn Qayyim al-Jawziyya, edited by Birgit Krawietz, Georges Tamer, and Alina Kokoschka, 61-93. Berlin-Boston: De Gruyter, 2013.

Hoover, John. Naẓariyyat al-ʿadl al-ilāhī ʿinda Ibn Taymiyyah. Translated by Muḥammad Khiḍr. Beirut: Namaa, 2022.

Ibn Khaldūn, ʿAbd al-Raḥmān. Muqaddimat Ibn Khaldūn, edited by ʿAlī ʿAbd al-Wāḥid al-Wāfī. Cairo: Dār Nahḍat Miṣr, 2019.

Ibn Taymiyyah, Aḥmad Ibn ʿAbd al-Ḥalīm. Majmūʿ fatāwā Shaykh al-Islām Aḥmad Ibn Taymiyyah, edited by ʿAbd al-Raḥmān Ibn Qāsim. Medina, KSA: Majmaʿ al-Malik Fahd li-Ṭibāʿat al-Muṣḥaf al-Sharīf, 1425H/2004CE.

Shihadeh, Ayman. The Teleological Ethics of Fakhr al-Dīn al-Rāzī: Leiden-Boston: Brill, 2006.

ʿAbīda, Muḥammad. “Falsafat al-fiʿl wa-naẓariyyat al-ʿādah al-tārīkhiyyah ʿinda l-Mutakallimīn wa-taṭbīqātuhumā fī mabḥath al-nubuwwāt: al-Fakhr al-Rāzī namūdhajan.” Majallat Namaa 7, no. 1 (2023): 50-72.

موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، الرابط <https://philosmus.org/archives/3804>

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى