الأسطورة

 رحلة البعث والحساب في الأسطورة الفرعونية

عبد المجيد طعام

كل الحضارة الفرعونية قائمة على الدين وتدور في فلكه ،ولعل هذا ما دفع  المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى القول :” المصري متدين بطبعه” وتعد الديانة الفرعونية من أكثر الديانات نضجا وتعقيدا ولا غرو في ذلك إذا علمنا أنها  اصل الحضارة الفرعونية بأكملها، كل الألغاز الحضارة الفرعونية التي عبرتعنها الأهرامات والتحنيط والمقابر والطقوس اصلها نابع من العلاقة بين  الإنسان المصري القديم والدين الذي تأسس في تلك الفترة من التاريخ السحيق ، وهكذا يمكن القول إن حل ألغاز الحضارة الفرعونية يتوقف على فهم للدين المصري القديم.

كل حياة المصريين في العهد الفرعوني كانت تدور في فلك الدين ،كل الدورة الحياتية اليومية والسنوية كانت تخضع للدين ،كان الإله رع إله الشمس يشرق صباحا ليبدأ يوم جديد إلى أن يصل إلى الغروب ينزل إلى العالم السفلي ليواجه الثعبان الذي يريد أن يقتله حتى يعم الظلام لكن رع وبمساعدة أوزوريس ينتصر في كل ليلة لتشرق  الشمس من جديد ،كما أن ارتفاع منسوب المياه في النيل وانخفاضه كان رهينا بمزاج الآلهة وكان لا بد أن يخلق المصري القديم طقوسا خاصة وتعويذات ويخترع تمائم سحرية ويقدم القرابين ويعبر عن طاعته للآلهة حتى يستمر التوازن الذي يعتبر ضروريا من أجل الرخاء والطمأنينة والسعادة .

اهتم المصري القديم بحياته اليومية التي اعتبرها مجرد مرحلة للمرور إلى الحياة الأبدية ، لقد كان يؤمن بالحياة ألأخروية من هنا يمكن القول إن من اهم مظاهر الديانة المصرية القديمة,  الإيمان بالبعث والخلود, وهذه الفكرة كانت المسيطرة على المصريين بشكل كبير, و نلاحظها في الآثار الموجودة حاليا , فهم اهتموا ببناء المقابر والمعابد إيمانا منهم ان في الحياه الاخري سوف يحتاجون الى هذه الابنية مرة اخري…اما القصور والبيوت  فانها فقط لهذه الدنيا  ولم تبن لكي تعيش للابد.

آمن المصرى القديم أن هذه الحياه هي مؤقته وبعد الموت يوجد الحياه الابدية, وامن بالثواب والعقاب,وأمن أن بعد الموت, تتعرض الروح لمحاكمة لتقيم ما أتاه الميت فى دنياه من حسنات وسيئات، فيجازى المُحسن على إحسانه، ويعاقب المُسىء على سيئاته.

لكن لابد من إجراءات ليستع الجسد القيام بالرحلة بعد الموت أولها التحنيط : أمن المصريون باهمية الجسد للحياة الاخرى, فوجب الحفاظ علي الجسد, ومنذ بداية اعتقاد البعث وجدت المحاولات للحفاظ عليه,. كان يؤمن المصريون بأن عدم وجود الجسد لا يمكن أن يكون حساب وبالتالي انتفاء البعث فيحرم الميت من البعث. كما لاحظ القدماء ان بعض أعضاء الجسم تتلف إذا تركت داخل الجسم بالرغم من التحنيط ,فقام المصري القديم بنزع هذه الأعضاء ووضعها في اناء مخصوص للحفاظ عليها. فنزع الرئتين, الكبد, الأمعاء والمعدة ووضع كل عضو في إناء فكان مجموعها أربع أواني مثلت أبناء الأله حورس الأربعة. وحنط القلب منفصلا وتركه في الجسد,حيث ان الميت يحاسب عن طريق قلبه. كانوا يؤمنون بأن القلب هو الذي يتخذ القرارات وهو الذي يحدد الصواب والخطأ, وليس المخ, فكان يتم ازاله المخ والتخلص منه.

إن أبرز أسطورة تهتم بمفهوم البعث و الحساب هي تلك التي وردت بالتفصيل في ما يسمى بكتاب الموتى الفرعوني هذا الكتاب يتكون من مجموعة مفصلة من التعاويذ والتمائم السحرية التي كانت تنقش على جدران المقابر أو على التوابيت حيث تكتب نصوص التعاويذ و توضع البردية في التابوت إلى جانب المومياء.

وبما أن تكاليف التحنيط وتجهيز الميت وكتابة التمائم السحرية كانت مكلفة فإن المصريين الميسورين هم من كانوا يحزون بهذه الخدمة كان الكهنة هم من يقومون بتجهيز  كتاب الموتى الخاص بالفقيد، بحيث يذكر فيه إسمه و إسم أبيه واسم أمه ووظيفته في الدنيا، وذلك استعدادا ليوم وفاته وتجهيز طقوس نقله إلى مقبرته، و لم يكن هذا الأمر متوفراً لكل المصريين ﻷنه مكلف جدا لذلك اختصت به طبقة معينة من النبلاء و الموظفين و خدام الآلهة في المعبد.

تلك التعاويذ والتمائم التي يحملها الكتاب هي تعليمات إرشادية تمكن الميت من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه في أثناء رحلتها فى عالم الموتى خلال ال 12 بوابة متجه الى الخلود (رحلة البعث), تساعده على معرفة الأبواب وأسمائها وتعاويذ فتحها والمرور منها والوصول إلى الآلهة.

يزهر كتاب الموتى، الميت و هو يمثل أمام ما يسمى بمحكمة الموتى و هي مكونة من 42 قاضيا للإعتراف بما كان يفعله في حياته، ونرى إلى اليمين أسفل منهم أوزيريس جالسا على العرش وخلفه تقف أختاه إيزيس و نفتيس وأمامه الأبناء الأربعة لحورس وقد قاموا بالمحافظة على جثة الميت في القبر،. إلى اليسار نرى أنوبيس يصاحب الميت لإجراء عملية وزن قلبه، و في الوسط منظر عملية وزن القلب حيث يقوم الإله أنوبيس بوزن قلب الميت ويقارنه بريشة الحق “ماعت”، بينما يقف الوحش الخرافي “عمعموت” منتظرا التهام القلب إذا كان الميت خطاء عصيا، وفي نفس الوقت يقوم “تحوت” (إله الحكمة الذي علم المصريين القدماء الكتابة و الحساب) بتسجيل نتيجة الميزان بالقلم في سجله الأبدي.

لقد كان تصور المصري القديم أن الإله حورس سوف يأتي بالميت بعد نجاحه في اختبار الميزان ويقدمه إلى أوزيريس، ويُعطى لباسا جميلا ويدخله إلى الحديقة الغناء “الجنة”، و قبل ذلك لا بد من أن تتم عملية وزن أعمال الميت في الدنيا عن طريق وضع قلبه في إحدى كفتي الميزان وتوضع في كفة الميزان الأخرى ريشة “ماعت” وهي رمز “العدالة والأخلاق السوية”، فإذا كانت الريشة أثقل من قلب الميت، فمعنى ذلك أنه كان شخصاً طيبا في حياته و على خلق كريم فيأخذ ملبسا جميلا ويدخل حديقة “الجنة” حيث حقول الفردوس تتخللها الأنهار من تحتها ليعيش فيها راضيا سعيدا أبد الآبدين. أما إذا ثقل قلب الميت عن وزن الريشة فمعناه أنه قد كان في حياته شخصاً شريرا، و عندئذ يُلقى بالقلب و بالميت إلى حيوان خرافي يكون واقفا بجوار الميزان – اسمه “عمعموت” – رأسه رأس أسد وجسمه جسم فرس النهر و ذيله ذيل تمساح – فيلتهمه هذا الحيوان على التو وتكون نهايته. و من الأجزاء الأساسية في كتاب الموتى دعاء خاص يدافع به الميت عن نفسه (ويسمى الاعتراف بالنفي)، حيث يقول : “السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك ياإلهي خاضعا لأشهد جلالك، جئتك ياإلهي متحليا بالحق، متخليا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أكن كاذبا ولم أكن لك عصيا، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني (ياإلهي) لم أوجع ولم أبك أحدا، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئا مقدسا، ولم أغتصب مالا حراما ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبع قمحا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئا من الآثام، فاجعلني ياإلهي من الفائزين.”

تبين أسطورة البعث والحساب أن العقائد الدينية كانت تشغل المصريين القدامى طوال حياتهم. كان الموت لديهم جزءا لا ينفصل عن الحياة كان تصورهم للموت والحياة لا يختلف كثيرا عما نعتقده اليوم، كانوا ينظرون إليه كجزء لا يتجزأ من مفهوم الحياة، ويستعدون له كما يجب للعبور نحو الحياة الأخروية. رغم التباعد الزمني بيننا وبين الحضارة الفرعونية ورغم اختلاف مصادر التشريعات الدينية  فلا يمكن أن ننكر أنه توجد بين معتقداتنا ومعتقداتهم تماثلات كبيرة. إن التشابه بين الأساطير المصرية القديمة و ما تذكره الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية فيما يخص مفهوم الحياة الآخرة والبعث بعد الموت يصل إلى درجة من التشابه تتجاوز حدود التناص الأدبي، إذ يبدو من الواضح أن الأديان الإبراهيمية قد اقتبست الكثير من  التفاصيل الواردة في أسطورة البعث الفرعونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى