الأسطورة

أسطورة الخلق الفرعونية – 2   

 

  1. البعث والحساب عند الفراعنة

عبد المجيد طعام

 

أظهرت معتقدات مصر القديمة الكثير من المعالم الأولى للإيمان والفلسفة والحكمة ، كما أسهمت في تشكيل المجتمع ثقافياً وسياسياً، بصياغة وبناء القيم الأخلاقية والحقوق المدنية ، وأفكارالميتافيزيقيا وفلسفة الوجود، قبل اليونان وحضارتها.

لكن ، كيف صاغ الفراعنة قصة خلق الكون والإنسان ؟ هل يمكن أن نعتبر مصر الفرعونية  أول حضارة بشرية اعتمدت على أحادية الإله في تصورها لعملية الخلق ؟ للإجابة عن هذا السؤال الهام والشائك في نفس الوقت ، يجب أولا أن نستحضر قصة الخلق كما تجسدت في كتاب  العهد القديم ، وانتقلت إلى كتاب العهد الجديد  ثم إلى القرآن مع الأخذ بعين الاعتبار بعض التغييرات الطفيفة ، التي نجدها بين هذه الكتب الدينية المقدسة . جاء في العهد القديم ، الكتاب المقدس لدى اليهود ، أن الله خلق الكون في ستة أيام ، ثم استراح في اليوم السابع. ورد في العهد القديم كما في الكتب المقدسة التي جاءت بعده ، أن الخلق تحقق من العدم ، لم يكن شيء قبل فعل الكينونة ” كن” ، كل شيء خلق بعد أن قال الله ” كن ” فكان ، كل شيء خلقه حسب إرادته ورغبته ، المادة التي تكون الكون ، خلقت بالإرادة الإلهية . ونحن نتتبع عملية الخلق كما وردت  في العهد القديم والكتب السماوية الأخرى التي تحكي نفس القصة تقريبا ، نجد أنفسنا أمام وضعيتين : الأولى هي وضعية ما قبل الخلق  ، والثانية  هي وضعية الخلق من العدم ، وهذا ما يعرف باسم . création ex nihilo”” “الخلق من العدم” وهو مصطلح يستخدم لوصف فكرة الإلهية أو القوة الخالقة التي تقوم بإحداث الوجود من العدم، و يشير الصطلح كذلك إلى قدرة الإله أو الكيان الخالق على خلق المادة والكون بدون وجود سابق لها. في العديد من التقاليد الدينية والفلسفية، تُعتبر قدرة الخلق من العدم إحدى سمات الإله أو القوة الإلهية،و يُعتقد أن هذه القوة تتجاوز قوى وعمليات الطبيعة  .

حينما ننتقل إلى قصة الخلق الفرعونية نجدها تختلف شيئا ما عما ورد في الديانات الإبراهيمية ، وقد وردت في الكثير من الأساطير المصرية والقصص المقدسة التي كان يؤمن بها المصريون، وهي تتميز بعمقها الفلسفي، وتضم شخصيات متعددة منها الآلهة ومنها أنصاف الآلهة ، بينما وجود البشر في هذه الأساطير كان يأتي كمكمل للقصة دون أن يؤثر في توجهها العام  . تعددت أساطير الخلق الفرعونية وتنوعت حسب المناطق والمدن ، وهي تعكس العظمة والتنوع الذي ميز التصور المصري القديم للوجود.

عندما نقوم  بقراءة أسطورة الخلق الفرعونية، نكتشف أنها أكثر تعقيداً بالمقارنة مع الأساطيرالسابقة واللاحقة  ما يجعلها متفردة ، إنها تتميز بعمق كبير في تحديدها للمبادئ الأساسية للحياة والطبيعة والمجتمع ، ولكن على الرغم من تنوعها الخلق فإنها تتفق حول نشأة العالم من الفوضى LE CHAOS .

الفوضى LE CHAOS هي حالة عدم النظام والترتيب، تشيرالفوضى إلى غياب الهيكل والتنظيم. في السياق الفلسفي والديني يشيرالمصطلح إلى حالة أولية أو بدائية لعدم توفر النظام وهي حالة سابقة على الخلق ،في بعض التقاليد الدينية والميثولوجية، تظهر الفوضى ككيان أو حالة منفصلة ، قبل أن يحدث الخلق، ويُعتقد في بعض الأديان أن الإله أو الكيان الخالق ينحصر دوره في  تحويل الفوضى إلى نظام وترتيب لتتحقق عملية الخلق ، أما في بعض الفلسفات تُعتبر الفوضى جزءًا من التوازن الأساسي في الكون، حيث يتعايش النظام والترتيب مع الفوضى، و يُعتقد أن الفوضى قد تكون أساسًا للإبداع والتغيير والتجديد.

تم سرد أساطير الخلق الفرعونية في الكتابات الهيروغليفية المنحوتة على الأهرامات والمعابد والمقابر وأوراق البردي le papyrus ، وهي تعكس عظمة الفكر المصري القديم ومدى احترام المصريين للقوانين السماوية . تأثرت أساطير الخلق المصرية القديمة بالبيئة الطبيعية التي عاش وسطها المصريون القدماء، حيث تتحكم دورات الشمس ونهر النيل في حياتهم اليومية وفي نمط إنتاجهم، كما اعتبر المصريون الماء والشمس رمزين للحياة،  ولكنهم كانوا يشعرون بوجود خطر دائم يتهدد حياتهم المنظمة ، بما أن الفوضى الأولى  التي خلق  منها الكون والأرض ،مازالت موجودة وهي مستقرة خارج العالم ، يمكن أن يستعيدها الخالق متى شاء لتدمير النظام أي الكون ، لهذا كانت حياة المصريين تسير على نظام دقيق ومحكم.  كان يحمل المصريون قلقا دائما وخوفا  من فقدان النظام وعودة الفوضى الأولى ، لهذا احتاجوا إلى دعم الآلهة ، وتقربوا منها طلبا للحماية  ، لكن هده الحاجة اختلفت من منطقة إلى أخرى ، لهذا أنتجوا قصص خلق متعددة .

تعتبر قصة الخلق في أسطورة  الإله “نون” والإلهة “نوت” من بين أشهر أساطير الخلق المصرية . في البداية كان الإله نون / الأرض، والإلهة نوت/السماء، متلاحمين ومتلاصقين، ثم فصلهما الإله شو/إله الهواء. انفصلت السماء عن الأرض، وظهر الإله رع/ إله الشمس الذي يسافر عبر السماء ، ليعيد الحياة إلى البشر بعد ظلام الليل ، وينشر الحركة والنشاط  في العالم بواسطة نوره. كل  مساء، يمر إله الشمس رع ، وراء الأفق الغربي ، ليصل إلى منطقة غامضة ، وهي تمثل المنطقة غير المجسدة من إله السماء/نون، يقوم رع برحلته كل مساء ، ثم يخرج من الأفق الشرقي عند الفجر.

تصف النصوص المصرية بشكل مختلف شمس الليل وهي تسافر تحت الأرض ،داخل جسد نوت. ويعتقد علماء الأنثروبولوجيا المصرية أن نوت تمثل السطح المرئي لمياه نون حيث تطفو النجوم ،وتبحر الشمس عبر تلك المياه السماوية في شكل دائري.

تصور المصريون السماء كمظلة صلبة ، وتصوروا الشمس وكأنها تسير فوق سطح السماء من الغرب إلى الشرق أثناء الليل ، لقد استوحى المصريون حركة الشمس والزمن  من ظروف بيئتهم ، إذ كانوا يراقبون كل يوم شروق الشمس وغروبها ، يتابعون باهتمام انتظام حركتها ، التي تنظم نشاطهم اليومي ، ونتيجة هوس المصريين القدامى بالنظام ،اعتقدوا أن نشأة الكون استمرت على مدى فترة طويلة من الزمن، عاشت فيها الآلهة على الأرض ،أنشأت ممالك عادلة ، ثم قررت الانتقال إلى العالم العلوي، وورث عنها الفراعنة الحق في الحكم.

في قصة خلق ثانية ،سيضلع الإله “أمون” بمهمة خلق الكون ، لكنه لم يخلقه من العدم، وإنما خلقه من مادة أولية موجودة قبل الإله نفسه ، “أمون” لم يخلق المادة هي موجودة قبل وجوده ، كانت تحتاج إلى مخصب فقام الإله أمون بهذا الدور أي تخصيب المادة التي تسمى “المحيط البدائي” .

عندما نقارن بين هذه القصة والقصة الإبراهيمية  ،نجد بينهما  فارقا مهما ، في الديانات التوحيدية الله يخلق كل موجود من العدم ،بينما تتحدث الأسطورة الفرعونية عن إله مخصب . مبدأ التخصيب يختلف عن مبدأ الخلق ،التخصيب يعني وضع المخصب في الرحم وانتظار الولادة ، الإنسان مثلا لا يوجد إلا بوجود مخصب أي مني الرجل ، المرأة لا تخلق وإنما تلد وتنجب .الإله المصري ” أمون ” يختلف عن إله إبراهيم ، أمون سيخصب المادة البدائية ، فينشأ الكون والمادة الأولية هي التي تعرف باسم  الفوضى أيضا LE CHAOS   وهي سابقة على الخلق ذاته .

أسطورة “أمون” تدل على أن هناك من المصريين القدامى من آمنوا  بأطروحة الخلق الذاتي ، و تعني أن الكون خلق ذاته بذاته ،بعد أن خصبه الإله “أمون ” ،وقد استعمل نفس الأطروحة أفلاطون ،حينما تحدث عن خلق الكون وأعزى ذلك إلى قوة ميتافيزيقية، عبارة عن إله قام بضخ النظام في الفوضى الأولية  le chaos primordial، وهو مصطلح يشير إلى مفهوم حالة الكون الأولية، التي تتميز بالفوضى المطلقة وعدم وجود شكل أو هيكل. في العديد من التقاليد الأسطورية والكوزمولوجيات، نجد مفهوم الفوضى الأولية التي ينشأ منها الكون وجميع كياناته،غالبًا ما يُستخدم مفهوم الفوضى الأولية لشرح أصل الكون ولتمثيل فكرة التحول أو الخلق من حالة الفوضى . تقدم هده الأطروحة الخالق على أنه مهندس ، قام بتنظيم  المادة الأولية وشكل منها الكون ، الخالق المهندس غير معروف،متواري ومختفي عن الأعين ،هو وحده القادر على تنظيم الكون بعد أن كان مجرد فوضى  .

إن تعدد و اختلاف نصوص وقصص الخلق المصرية  من منطقة إلى أخرى ، ومن زمن إلى آخر ، قد يعيق فهمنا للميتافيزقا الفرعونية ، إذ نجد أنفسنا أمام مجموعة من القصص ،  تتقاطع في نقط وتختلف في أخرى .نجد في الميثولوجيا الفرعونية قصصا أخرى تعزي الخلق إلى آلهة آخرين غير “أمون” ، هناك الإله “أتوم” إله الخلق في مدينة هيليوبوليس ، نجد في أحدى الأساطير المصرية القديمة ، أن “أتوم ” خلق نفسه بنفسه على قمة التل الأزلي، ثم خلق العالم، و خلق “شو” الهواء و”تفنوت” الرطوبة. “أتوم”  ألاه ذكر وأنثى في نفس الوقت ،توحد مع الإله رع ،وأصبح يعرف باسم “أتوم رع”

الإله الخالق الآخرفي الحضارة الفرعونية ، يسمى  “بتاح” وهو الإله المقدس بمنفيس ،هو المعبود الخالق لدى المصريين القدماء ، وجد الإله “بتاح” قبل وجود جميع الأشياء ، بواسطة التفكير والإرادة خلق العالم ؛ “بتاح”  تصور العالم بفكره وأتى به إلى الوجود بكلمته المقدسة : ”بتاح يتصور الكون بأفكار قلبه ويبث الحياة فيها بسحر كلمته.“ أي بفضل أمر الخلق ” كن ” . يلعب “بتاح” أيضًا دورًا في الحفاظ على بقاء العالم ودوام الحكم الملكي ، إنه راعي الحرفيين، العمل ،المعادن، النجارة، بناة السفن والنحت.. نلاحظ أن قصة الخلق التي ظهرت في  مدينة منفيس، تتقاطع في فعل الكينونة ” كن “مع نص العهد القديم وباقي الكتب الإبراهيمية .

عرفت الميثولوجيا المصرية تنوعا مهما في قصص الخلق ، منح المصريون “أمون” قدرة  الخلق عن طريق تخصيب المحيط الأولي ،ومنحت لبتاح قدرة الخلق عن طريق  تحقق فعل ” الكينونة ”  ،على الرغم من هذا التعدد  ، إلا أن كل النصوص تتفق على وجود إله واحد هو أصل كل الخلق ، وهذا ما يفرض طرح سؤال وإن بصيغ مختلفة :  ما هو مصدر هذا الإله الخالق  ؟ ما هو أصله ؟ من أين أتى  ؟ هل هو نتيجة سبب سابق على وجوده ؟ هذا السؤال (الأسئلة) ليس غريبا على الفلاسفة ،لأنه يحيل على إشكالية فلسفية تعرف باسم إشكالية السبب الأول ،ويمكن أن نفهمها بكل بساطة من خلال هذا الطرح :  إذا كان خلق الكون يعود إلى سبب، فإن هذا السبب ناتج عن سبب قبله، وهكذا تتسلسل الأسباب إلى ما لانهاية. هذا التسلسل في تتبع الأسباب ، يفرضه المنطق ، لأن لا شيء يخلق من العدم ،أمام هذا الإشكال، اختلف الفلاسفة طيلة قرون طويلة  ،إلى أن قدم سبينوزا  في القرن 18 إجابة أربكت الدوائر الفلسفية والدينية في عصره ،  قال سبينوزا بعدم وجود سبب خارجي لوجود الله ، الله نفسه سبب وجوده ،أي أن خالق الله هو الله .

إن فكرة وجود السبب في ذاته ،كما وردت عند سبينوزا ، تعود أصولها إلى قدماء المصريين ، ففي النسخة الثالثة لأسطورة الخلق، تم تصويرالإله”أتوم ” على شكل رجل يرتدي الزي الملكي ، وأحيانا يرتدي التاج الأبيض والأحمر، وهما يرمزان لمصر العليا والسفلى، وفي بعض الأحيان ظهر الإله “أتوم” على شكل أفعى يمسك بيده اليمنى الصولجان رمز الحياة، كما ظهر على شكل:  نمس، أسد، ثور، سحلية، قرد.

كان” أتوم” يقدم على أنه الإله الأول ، والخالق الوحيد، ليس مثله شيء ، وجدت كتابات تنسب إليه على جدران المعابد جاء فيها: “خلقت نفسي على أكمل وجه حسب إرادتي ورغبتي”  تعتبر هذه الكلمات المنسوبة إليه جد مهمة ،لأنها تحيلنا على ما جاء في العهد الجديد بخصوص ميلاد المسيح وعذرية مريم ، خاصة وأن المسيحيين يعتقدون أن المسيح هو الله . يحيل إعلان “أتوم” ، على  قضية فلسفية قديكة جديدة ،ألا وهي قضية الوعي بالذات، ذلك أن الإله أتوم وجد حينما وعى ذاته.  وقد ناقش الكثير من الفلاسفة هذه  القضية قديما وحديثا، ومن خلال الطرح الفلسفي لهذه القضية ، نخلص إلى أن إدراك الذات هو فعل يتحقق بواسطة العقل  ، الوعي بالذات هو فعل تصدير الذات إلى الخارج  على  شكل تمثيل عقلي، من خلال الوعي الذاتي نخرج من أنفسنا وننشطر إلى كيانين هما :  الأنا الذي يفكر والأنا الذي فكر ، الأنا الذي أنجب والأنا المولود ، أي الأنا الذي خرج إلى الوجود ، لهذا يمثل الوعي بالذات شكلا من أشكال التوليد الذاتي، بمعنى توليد صورة الذات من خلال الذات نفسها .

بالنسبة للمصريين القدامى ، إن أصل  الكون لم يكن عملا من أعمال الخلق ، بل نتج عن فعل لفظي يختص به الإله  كيف؟ ببساطة نقول إن “أتوم” ولد نفسه داخل الفوضى البدائية   LE CHAOS، من خلال التصور الديني، نحن كائنات قاصرة ،لا يمكن أن ندرك  هذه الفوضى البدائية، هي غير معروفة لا يمكن أن نعيها ،وإنما ندرك فقط الجزء المرئي من الكون، وهكذا تكون الفوضى الأولية هي مصدر الكون ، ومنها أنتج الإله “أتوم” نفسه ،إنها المنظومة الأبدية للروح الإلهية، وبهذا  المعنى فإن الفوضى البدائية تحتوي على كل مكونات الوجود ،الله والكون المنظم ، لكن الخلق لم يتحقق إلا بعد أن أدركت الفوضى البدائية وعي وجودها.

على ضوء ما سبق، يظهر أن المصريين القدامى ، كانوا يملكون تصورا فلسفيا ميتافيزيقيا ،حول أصل الكون ،بل امتلكوا نسقا فلسفيا مكتملا ، يمكن أن نوجز أهم معالمه في ما يلي :   ولد الكون من خلال التقاء مبدأين أساسيين ،هما المبدأ المادي الذي تمثله الفوضى الأولية والمبدأ الروحي الذي يمثله الإله بعد أن وعى ذاته ،وهكذا فإن الوجود قائم على الثنائية ألمادة والروح ، ولا يستثنى  الإنسان من هذه القاعدة فهو مركب من مادة وروح ،والروح متعلقة بالوعي ،من هنا سيكون  الوعي هو الجزء الروحي من كياننا ، بدونه سنكون مجرد أجساد تحكمها الاحتياجات الفسيولوجية فقط .آمن المصريون القدامى بأن علاقة الجسد بالروح يحكمها زمن الحياة فقط ،عندما يموت الإنسان تغادر الروح الجسد لتسافر إلى العالم الآخر ،الموت في تصورهم  لا يمثل  النهاية، وإنما  ولادة جديدة  في العالم الروحي.

إن الكثير من فلاسفة اليونان لم يفهموا جيدا تصور المصريين القدامى لدورة الخلق والحياة ،هيرودوت مثلا كان يعتقد أن المصريين يؤمنون بالتناسخ أو الحلول الروحي ، حيث تنتقل الروح من جسد إلى آخر، أو من كائن إلى أخر، إلى أن تصل إلى الدرجة العليا من التطهير، ولكن بعد أن وصلهم كتاب الموتى المصري فهموا تصور الفراعنة للروح والموت ، كتاب الموتى ،هو عبارة عن مجموعة من النصوص والتعليمات الدينية والسحرية والفلكية، التي كانت تستخدم في مصر القديمة خلال الفترة الفرعونية. يعرف هذا الكتاب باسم “كتاب الأشياء التي في المجيء بعدها” ، ويعتبر واحدًا من أهم النصوص الدينية في الثقافة المصرية القديمة، وكان يستخدم لتوجيه الأرواح في رحلتها إلى الحياة الأبدية.

يضم الكتاب تعليمات مهمة تساعد الفرد على تجاوز العقبات ، التي تواجهه أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، وفيه صيغ سحرية وتعويذات لحماية الشخص من الأرواح الشريرة والمخاطر الأخرى. كانت نسخ كتاب الموتى توضع في المقابر مع الموتى ،قد تختلف محتويات الكتاب من قبر لأخر ، حيث كان يتم تكييفه وتخصيصه من طرف الكهنة ، ليتناسب مع معتقدات ووظيفة والمستوى الاجتماعي للشخص الميت.

من الأجزاء الأساسية في كتاب الموتى نجد نصا خاصا يدافع به الميت عن نفسه (ويسمى الاعتراف بالنفي)، جاء في النص ما يلي : “السلام عليك أيها الإله الأعظم ، إله الحق. لقد جئتك ياإلهي خاضعا لأشهد جلالك، جئتك ياإلهي متحليا بالحق، متخليا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أكن كاذبا ولم أكن لك عصيا، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني (ياإلهي) لم أوجع ولم أبك أحدا، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئا مقدسا، ولم أغتصب مالا حراما ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبع قمحا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئا من الآثام، فاجعلني ياإلهي من الفائزين.”

كل الحضارة الفرعونية قائمة على الدين وتدور في فلكه ،ولعل هذا ما دفع  المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى القول :” المصري متدين بطبعه” ،وتعد الديانة الفرعونية من أكثر الديانات نضجا وتعقيدا ،ولا غرو في ذلك إذا علمنا ،أن الدين هو اصل الحضارة الفرعونية بأكملها. كان الدين هو المنظم لحياة المصريين ،كل الدورة الحياتية اليومية والاسبوعية والشهرية والسنوية، كانت تخضع للدين وتدور في فلكه ،كان الإله رع إله الشمس يشرق صباحا ليبدأ يوما جديدا إلى أن يصل إلى الغروب ، فينزل إلى العالم السفلي، ليواجه الثعبان الذي يريد أن يقتله، ليعم الظلام ، لكن رع وبمساعدة أوزوريس، ينتصر في كل ليلة، لتشرق الشمس من جديد ،كما أن ارتفاع منسوب المياه في النيل وانخفاضه ، كان رهينا بمزاج الآلهة ،وكان لا بد أن يخلق المصري القديم طقوسا خاصة وتعويذات، ويخترع تمائم سحرية ، ويقدم القرابين ليعبر عن طاعته للآلهة ، ليستمر التوازن الذي يعتبر ضروريا من أجل الحياة.

اهتم المصري القديم بحياته اليومية التي اعتبرها مجرد قنطرة عبور إلى الحياة الأبدية ، كان يؤمن بالحياة ألأخروية ،و البعث والخلود، هذا الاعتقاد  سيطر على المصريين بشكل كبير. آمن المصرى القديم بأن الحياه مؤقته ،وبعد الموت توجد حياة أبدية، بعد المحاكمة والحساب ،والمثول أمم أوزيريس  لينظر ما زرع الميت فى دنياه من حسنات وما فعل من سيئات، فيجازى المُحسن على إحسانه، ويعاقب المُسىء على سيئاته.  لتحقيق الخلود كان يستعد المصريون أيما استعداد ، والتقيد بشروطه الدقيقة، لتمر الرحلة بسلام ، كان المصري القديم يفكر أولا  في التحنيط ، لأنه آمن باهمية الجسد في الحياة الأخرى . كان المصريون يسعون إلى صيانة الجسد من التلف ، بدون الجسد لا يمكن أن يكون حساب أوبعث، ونتيجة البحث عن انجع السبل للحفاظ على الجسد من التلف ،لاحظ المصريون القدامى ان بعض أعضاء الجسم تتلف بسرعة إن هي تركت داخل الجسم ، فقاموا بنزع كل الأعضاء سريعة التعفن  :  الرئتان، الكبد، الأمعاء والمعدة ، أما المخ فكانوا ينزعونه ويتخلصون منه ، ثم وضعوا كل عضو في إناء ، كان مجموعها أربعة أواني مثلت أبناء الأله حورس الأربعة، ونظرا لأهمية القلب لإتمام عملية الحساب بعد الموت ،فقد اهتموا بتحنيطه داخل جسد الميت ..

وردت الكثير من قصص البعث في الحضارة الفرعونية ، ولكن أبرزها هي تلك التي وردت بالتفصيل في “كتاب الموتى”  كان الكهان يقومون بتجهيز كتاب الموتى الخاص بالفقيد، بحيث يذكر فيه إسمه و إسم أبيه واسم أمه ووظيفته في الدنيا،وتجهيز طقوس نقله إلى مقبرته، و لم يكن هذا الطقس الديني  متاحا لكل المصريين ، ﻷنه مكلف جدا ، لذلك استأثرت به طبقة معينة من النبلاء والموظفين و خدام الآلهة في المعبد. كان كتاب الموتى مهما بالنسبة  للميت، لأنه يضم تعليمات إرشادية، تمكن روح الفقيد من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادفها أثناء رحلتها تجاه عالم الموتى ، إنها رحلة شاقة تلفها الكثير من المخاطر ، منها المرور عبر  12 بوابة قبل الوصول الى الخلود ، كان كتاب الموتى يحمل أسماء كل الأبواب ، وتعويذات فتحها، للمثول أمام محكمة الموتى يوم الحساب .

تتكون محكمة الموتى من 42 قاضيا للنظر في أعمال وأفعال الفرد قبل موته ، أسفل القضاة كان يجلس أوزيريس على عرشه ،وخلفه تقف أختاه إيزيس ونفتيس وأمامه الأبناء الأربعة لحورس ، إلى اليسار يقف أنوبيس بالقرب من الميت لإجراء عملية وزن قلبه، وسط المحكمة تتم عملية وزن القلب ،ـوهي مهمة موكولة  للإله أنوبيس ، تتم عملية الوزن  بوضع قلب الميت على كفة الميزان ووضع ريشة الحق أو “ماعت”  على الكفة الأخرى .ىتعتبر ريشة الحق أو “ماعت” رمزًا قويًا في الثقافة المصرية القديمة ،وهي ترمز إلى العدل والحقيقة والمساواة ،.

يزن أنوبيس قلب الميت ويقارنه بريشة الحق ماعت  ، كما يظهر بمحكمة الموتى ” تحوت” إله الحكمة ،وهو من علم المصريين القدماء الكتابة و الحساب، ليقوم بتسجيل نتيجة الميزان على سجله الأبدي ، إذا كان القلب أخف من ريشة الحق ، جاز للميت أن يدخل عالم الخلود إلى جانب الآلهة ، أما إذا كان القلب اثقل من الريشة يلقى صاحبه إلى “عمعموت” ليلتهمه وهو وحش خرافي له رأس أسد و جسم فرس النهر و ذيل تمساح.

بعد انتهاء عملية الحساب بنجاح ، يقدم الإله حورس الميت لأوزيريس ، فيعطيه لباسا جميلا ويدخله إلى “الجنة”  حيث حقول الفردوس تجري من تحتها  الأنهار ليعيش فيها راضيا سعيدا أبد الآبدين.

تبين أسطورة البعث والحساب ، أن العقائد الدينية كانت تشغل المصريين القدامى طوال حياتهم. كان الموت لديهم جزءا لا ينفصل عن الحياة ،كان تصورهم للموت والحياة لا يختلف كثيرا عما نعتقده اليوم، كانوا ينظرون إليه كجزء لا يتجزأ من سيرورة الحياة، كانوا يستعدون له كما يجب  للعبور إلى  الحياة الأخرى ، وعلى الرغم من التباعد الزمني بيننا وبين الحضارة الفرعونية ، ورغم اختلاف مصادر التشريعات الدينية بننا وبينهم ،   فلا يمكن أن ننكر وجود تقاطعات ملحوظة بين معتقداتنا ومعتقداتهم.

الحلقة القادمة في موضوع أسطورة الخلق اليونانية

المصدر : أسطورة الخلق للأستاذ عبد المجيد طعام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى