ابن باجة فيلسوف العقلانية ، قصة اغتيال فيلسوف – 1 –
إعداد : عبد المجيد طعام
الفلسفة وسؤال التكفير ، حلقات نعرض فيها لمفكرين وفلاسفة مسلمين ، وغير مسلمين تعرضوا للنفي أو السجن أو القتل ،هذه الحلقة نخصصها لنقدم لكم قصة الفيلسوف ابن باجة الأندلسي مع التكفير ، وكيف انتهت نهاية مأساوية حيث تم اغتياله علي يد الظلاميين أعداء الفكر والفلسفة ، في هذه القصة المأساوية المثيرة التي تعبر عن محنة الفلاسفة في بلاد الإسلام على امتداد تاريخ طويل، سنعرف سيرة هذا الفيلسوف الذي ظلم في حياته كما ظلم في مماته .. فيلسوف ظل مهمشا منسيا تجنب أن يقترب منه الباحثون والدارسون قديما وحديثا ، فمن هو ابن باجة ؟ ماهي طبيعة فلسفته؟ كيف فكر ؟ وكيف تم اغتياله ولماذا ؟
لا أحد ينكر دور الفكر الإسلامي بشخصياته المفكرة في إثراء المعرفة الإنسانية في ميدان الفلسفة والنظر العقلي … من بين هؤلاء الفلاسفة نذكر الفارابي ..ابن سينا ..الرازي ..الكندي إلخ لكن الأمر الذي لا يستسيغه العقل أن السلطة كفرت كل الفلاسفة المسلمين العقلانيين بإيعاز من الفقهاء .. تعرض بعضهم للسجن وبعضهم للنفي وآخرون للقتل والاغتيال ، الأغرب في ما وقع ، أن الفلاسفة التي تم اغتيالهم في تاريخينا لازال لعنة الفقهاء تتابعهم إلى يمونا هذا .. لازال الفقهاء يحاصرون فكرهم ..يمنعون القراء من الوصول إليه في ألفيتنا الثالثة هذه . مس المنع والتضييق فلاسفة الأندلس ، أخذوا حظهم من التكفير كنظرائهم العباسيين ،عاش كل من ابن باجا الأندلسي وابن رشد وابن طفيل حصارا انتهى بحرق كتب ابن رشد واغتيال ابن باجة.
هو أبو بكر محمد بن يحيى التجّيبي الأندلسيّ السرقسطيّ المعروف بابن الصائغ ، من فلاسفة العرب والمسلمين قليلي الشهرة في العالمين العربي والإسلامي رغم ما قدّمه للفلسفة العربية والإسلامية من تراث زاخر.
ظلّت فلسفته تقبع في الهامش .. لم تنل الاهتمام الذي تستحقّ في زمانها كما في أزمنة لاحقة ، كان حظ ابن باجة التعيس أنه عاش في مرحلة دخول العالم العربيّ والإسلاميّ عصر الانحطاط الشامل، هذه المرحلة عرفت النكوص والردة الحضارية والثقافية وعداء الفكر العقلاني المتنور.
اتّسمت المرحلة التاريخيّة التي عاش فيها ابن باجة في الأندلس بالاضطرابات والانشقاقات والصراعات بين ملوك الطوائف، وتحوّل السلطة الى دولة “المرابطين” التي تؤرخ لبداية مجيء أمراء وحكام ، عرفوا بالاعتماد على الفقهاء لتأكيد سلطتهم، لقد تم توظيف الفقهاء ، لتثبيت السلطة السياسية واضفاء المشروعية على الحاكم ، ترتب عن الاعتماد على الفقهاء ، تصاعد وتيرة اضطهاد الفلاسفة والتنكيل بهم واطلاق شتى نعوت التكفير في حقهم… لم تعرف هذه الفترة ازدهارا فكريا وثقافيا بل بالعكس تم إقبار الفكر الفلسفي، ويفسر هذا أيضا بغياب تعدد الفرق الدينية ، بسبب سيادة المذهب المالكي كمذهب وحيد وواحد ؛ وقد لعب هذا الاحتكار المذهبي دوراً سلبياً أدى إلى تقويض الحركة الفلسفية؛ لأنه مذهب حد من الحرية الفكرية وحارب الفلسفة.
في غمرة هذا التضييق ، عرف الغرب الإسلامي وخاصة الأندلس في مراحله الحرجة السوداء ، ظهور فلاسفة كبار أثروا حركة فلسفية تقوم على العقل ، وتعني شأنه بشكل تجاوز المشرق، يعود هذا التميز الأندلسي المغربي إلى تغلغل الفلسفة اليونانية في فكرهم بشكل أعمق مما عرفه المشرق، وتداول المفكرين مجموعة من المؤلفات والكتب الفلسفية التي لم يسبق للمشرقيين أن عرفوها، ويعود سبب هذا التميز أيضا إلى التواصل بين المشرق والمغرب حول قضايا الفلسفة ، وهو ما ساهم في تمكن المغاربة من توظيف هذا الثراء في المنحى الذي سلكه فكرهم الفلسفي، خصوصاً في اعتماد العقل مقياساً للحكم على جميع القضايا، وهو أمر يشهد عليه فكر ابن باجة وبعده كل من ابن طفيل وابن رشد.
إن علاقةُ ابن باجة بزمانهِ كانت متوتّرة ، وسيرتهُ تميَّزت بالكثير من المحنِ، نظراً لكونه أوّل المشتغلين بالفلسفة وعلومها في الأندلس، ومن الأوائل الذين دافعوا عن الإنسان وحريَّة الإرادة والاختيار ، واعتبر العقل قيمة مطلقة ، وفصلَ بين العلم والدين فصلاً واضحاً في نظرياته العلميَّة، وأكَّد أنَّ مجال البحث العلمي يقومُ على التجريب والبرهان، ومجالُ الدين والإلهياتِ يقُوم على الغيب والإيمان، وهكذا سيمثل ابن باجة نموذج الشخصيَّة الفلسفية التنويريَّة . يتبع